في ثورة روج آفا ظهرت العديد من الملاحم البطولية التي قلّ نظيرها، والأبطال الذين أوصلوا ثورة شمال وشرق سوريا إلى المحافل الدولية وحوّلوها إلى نموذج ثوري يحتذى به، تحوّلوا إلى نماذج للتضحية والفداء من خلال ملاحم البطولة والمقاومة التي جسّدوها.
منذ بداية اندلاع الثورة في روج آفا نهض أبناؤها ضد الظلم والعدوان وحملوا السلاح للدفاع عن حقوقهم في العيش بحرية وسلام. أهالي باكور كردستان، ومن بينهم أهالي نصيبين أيضاً جاؤوا إلى روج آفا وفاء لقيمهم القومية، وكان الشهيد باران نصيبين واحداً من أولئك الأبطال الذي لبّوا نداء النفير العام أثناء مقاومة كوباني.
باران نصيبين، الاسم الحقيقي محمد ساري، أبصر النور في قرية كري ميرا التابعة لناحية نصيبين عام 1985، نشأ وترعرع ضمن أسرة وطنية مؤلفة من 13 فرداً، وهو الولد الثامن في الأسرة التي تعرّفت على حركة حرية كردستان بداية أعوام الثمانينات وتبنته، استشهد 16 شخصاً من عائلته، معظمهم مقاتلون في حركة حرية كردستان.
تعرضت أسرة الشهيد باران للضغوطات والمضايقات من قبل السلطات التركية الفاشية فنزحت من قريتها إلى اسطنبول ونصيبين.
عُرف منذ نعومة أظفاره، بمعاملته الحسنة وحسن خلقه وحبه للغير والخير، وكان محبوباً من قبل المجتمع المحيط به، عاش طفولة صعبة وشاقة بسبب النزوح والتهجير والمضايقات التي كانت تتعرض لها أسرته، واعتقل العديد من أفراد عائلته من قبل السلطات التركية، وكان شاهداً على كافة الاحداث التي وقعت بحق عائلته.
درس الشهيد باران حتى الصف الخامس، ولم يكمل دراسته؛ نتيجة ظروف أسرته الصعبة، عمل في أعمال كثيرة، في المطاعم، والمقاهي، وغيرها، كما عمل ضمن الشبيبة الثورية السورية، وحفّز الشبان والشابات على العمل الثوري، خلال نضاله اعتُقل وسُجن لمدة عام، وتولى مهمة نقل الرفاق بين باكور وروج آفا كردستان.
تزوج الشهيد باران من يسرى يوسف، وهي ابنة روج آفا، من قامشلو عام 2008، رُزق منها بثلاث أطفال؛ أوميد، ونور، وجان، مع بداية ثورة روج آفا، وفي ظل ظروف صعبة واجهتها المنطقة، توجّه أبناء كردستان بأجزائها الأربعة إلى روج آفا؛ استجابة للنفير العام وكان من ضمنهم أهالي نصيبين، والشهيد باران من بينهم، حيث دخل إلى روج آفا عام 2012.
حارب الشهيد باران في أزقة وأحياء ومدن روج آفا وشمال وشرق سوريا التي دخل إليها المرتزقة تحت مسميات مختلفة، وكان من بينهم مرتزقة داعش، وشارك كقيادي بارز في كافة المعارك "كوباني، ومنبج، والرقة، والطبقة، ودير الزور، والباغوز، وسري كانيه، وعفرين، وكري سبي، والحسكة، وتل معروف"، وغيرها من المناطق الأخرى، وشغل مراكز مختلفة في قوى الأمن الداخلي، وقوات سوريا الديمقراطية، ووحدات حماية الشعب، وقوات مكافحة الارهاب.
كل من عرفه أَحَبه
زوجة الشهيد باران، يسرى يوسف، قالت: "هناك الكثير من القصص التي نفتخر بها في وطن العز والشرف، من بينها قصة الشهيد باران الذي فضل الوطن على أبنائه، لطالما كان يقول لي ويقسم أنه ابن الثورة وأن أبناء الثورة لا يريدون "مالاً وبنيناً" وإنما مطلبهم الوحيد الحرية".
ذكرت يسرى بعض صفات الشهيد باران، بأنه كان ذا قلب رؤوف رحيم، يعطف على الصغير ويقبّل يد الكبير، وكان يُدخل البسمة إلى قلب كل من عرفه".
وأشارت أن أبناءها لم يكونوا يرون والدهم كثيراً؛ نظراً لمشاركته في الجبهات، وقلّما كان يزور المنزل، فقد كان يمضي معظم وقته في الدفاع عن الوطن ومحاربة الخلايا النائمة بعد القضاء على مرتزقة داعش جغرافياً.
ونوّهت يسرى إلى أنهم تعرضوا للمضايقات والعنف من قبل السلطات التركية بعد دخول الشهيد باران إلى روج آفا، ما دفعها إلى اللحاق بزوجها والقدوم مع أطفالها إلى مدينة قامشلو سراً.
رفاقي في الجبهات ينتظروني
أوضحت يسرى "لم أجد ما أخفف به ألمي ووجعي سوى تحقيق حلمه ومطلبه الأخير، والمضي مثلما خطط له لنا هو، على خطاه، وتربية أبنائي على ذلك، للانتقام لوالدهم".
وعن ارتباط الشهيد باران بحركة حرية كردستان ومدى حبه له وتعلقه قالت: "مهما تحدثت فلن أفيه حقه، لقد كان مرتبطاً بالوطن والقضية الكردية كثيراً، فحركة حرية كردستان والقضية الكردية كانت فوق كل الاعتبارات لديه"، وتابعت: "في بعض الأحيان كنت أقول له ابقَ في المنزل، فالأولاد قد اشتاقوا لك، كان يرد ’رفاقي في الجبهات ينتظروني‘، وهناك الآلاف من أطفالي في مناطق خطرة تحت حكم مرتزقة داعش بحاجتي لا أستطيع أن أتركهم".
لست أول امرأة يستشهد زوجها
ذكرت يسرى أن الشهيد باران كان يقول لها: "اذا استُشهدت فلست الشهيد الأول، وأنت لست أول امرأة يُستشهد زوجها، أكملي مسيرتي وازرعي في أولادي الروح الوطنية التي كبرنا وترعرعنا عليها، أكملي حياتك كما خططنا لها، قائلة: "الشهيد باران كان قد وضع الشهادة نصب عينيه ولم يهب الموت يوماً".
وعاهدت يسرى في ختام حديثها، بالمضي على العهد الذي قطعته للشهيد باران قبل استشهاده بأيام، وزرع الروح الوطنية في فكر أبنائها الثلاثة والانتقام لوالدهم الشهيد، مطالبة كافة الاهالي بالتعاون من أجل القضاء على العملاء والخونة ضمن المجتمع وتسليمهم للجهات المعنية".
حلمه الكبير إزالة الحدود بين باكور وروج آفا
"الذكريات التي تركها والإرث الذي خلده الشهيد باران لن ينتهي، ستصبح جميعها دروساً لنا"، بهذه الكلمات بدأ هونر جودي رفيق درب الشهيد حديثه.
تعرف هونر على الشهيد باران منذ 2013، ومنها ترافقا خلال الثورة في القطعة العسكرية، كتيبة الشهيد صبري، وحاربا جنباً إلى جنب في الكثير من المعارك ضد داعش، من شنكال إلى عفرين، كان يشارك في المعارك دون خوف ويبقى الى جانب رفاقه في أصعب اللحظات، كقيادي حارب في جميع القرى والبلدات.
قال عن ذلك: "في إحدى المعارك، وأثناء تحرير بلدة الهول، حوصرنا، ونفدت منا الذخائر، فقام بكسر الحصار والوصول إلينا، لم يتوانَ ولو للحظة عن ثورة روج آفا".
ويقول إن آخر ما كان يتمناه ويحلم به ويأمل بتحقيقه هو إزالة الحدود بين باكور وروج آفا، كان متعلقاً كثيراً بموطنه كردستان ويريد الوحدة وإزالة الحدود التي صنعها الاحتلال، وهذا ما أثبتته بأفعاله ونضاله، حيث عمل في كل مكان من أجل قضية كردستان.
وأضاف جودي "في 2016 انضممنا معاً إلى الأكاديمية والتدريب، كانت مدة التدريب 6 أشهر، ترك أثر في كل شارع وحي في روج آفا، للأسف استشهد على يد الخونة".
وعاهد جودي بمواصلة درب الشهداء "حتى تحقيق أهدافهم التي استشهدوا من أجلها، وبشهادة الرفيق باران نزداد إصرار وإرادة في الثورة".
كان يحميني ويرشدني
روجفان قامشلو أيضاً كان رفيق درب الشهيد باران، شاركا معاً في الجبهات والمعارك، يستذكر الشهيد قائلاً: "لم تكن هناك معركة أو جبهة إلا وكان الشهيد باران في مقدمتها، كانت علاقتنا قوية وكانت هناك علاقة عائلية بيننا وعلى تواصل مستمر، أثناء المعارك كان يحميني ويرشدني.
شارك في أغلب المعارك، في سري كانية 2012، وشنكال، وربيعة، وجزعة، وتل براك وتل حميس وحملة تحرير كري سبي ومنبج وعفرين وسري كانيه، كان من الأوائل الذين قادوا الكتائب العسكرية. كان يمتاز بالجدية وروح القيادة، وكان له أثر في كل مكان، سطر ملاحم في عين عيسى وبفضله وفضل رفاقه تم دحر هجمة الاحتلال، كان في المعركة قائداً فذاً يحمي كافة المقاتلين ويضحي بنفسه".
وأضاف أيضاً: "بكل فخر، سنبقى على الدرب الذي سلكه الشهداء، لن نتراجع عن القرار في اجتثاث والقضاء على الخونة والمرتزقة والجواسيس وسننتقم منهم أشد انتقام".
بتاريخ 14 نيسان الفائت، وفي تمام الساعة 01.45، استهدفت طائرة مسيّرة للاحتلال التركي سيارة على طريق الحزام في مدينة قامشلو بالقرب من بوابة نصيبين الحدودية، أسفر عن استشهاد رفيقنا باران نصيبين، وبمراسم مهيبة تم تشييع جثمانه إلى مزار الشهيد دليل ساروخان بتاريخ 15 نيسان.
سجل الشهيد:
الاسم الحركي: باران نصيبين.
الاسم والكنية: محمد ساري.
اسم الأب: محمد أمين.
مكان وتاريخ الاستشهاد: قامشلو 14 نيسان 2023
(ك)