فوضى الشرق الأوسط والحلول المحتملة من منظور القائد عبد الله أوجلان

فوضى الشرق الأوسط والحلول المحتملة من منظور القائد عبد الله أوجلان
الأحد 27 حزيران, 2021   01:25

الأسرة والوطن والمرأة -3

'الأسرة'

تُشَكِّل الذهنية والسلوكيات الاجتماعية المتشكلة حول المرأة والأسرة مشكلة تساوي في ثقلها ما عليه مشكلة الدولة بأقل تقدير. الدولة في الأعلى والأسرة في الأسفل، وكلاهما يشكلان تكاملًا جدليًّا أشبه بثنائية الجنة والسعير. فبينما تطبِّق الدولة نموذجها المصغر في الأسرة، تكون الدولة نموذجًا مكبَّرًا لمتطلبات الأسرة المتعاظمة، وكل عائلة تجد الحل الأمثل في التدول، وانعكاس استبداد الدولة على الأسرة هو الرجل "رب الأسرة"، الذي يظهر كـ "مستبِد صغير"، وبقدر ما يسعى المستبد الكبير في الدولة لإضفاء نظام معين على العالم عبر صلاحياته ومواقفه المؤثرة والمزاجية، يقوم الرئيس الصغير بالانهماك في أعمال نظامية مطلقة مماثلة، ليطبقها على حفنة من النساء والأطفال.

سيبقى أي تحليل اجتماعي قديرٍ شديدَ النقصان، بدون تحليل الأسرة في الحضارة الشرق أوسطية على أنها نموذج مصغر للدولة، وإن كانت مشكلة المرأة متفاقمة بقدر مشكلة الدولة – على الأقل – في مجتمعنا الشرق أوسطي الراهن، فالسبب في ذلك يكمن في تاريخ عبوديتها الطويل والمعقّد بقدر تاريخ الدولة. لذا، وبدون وضع البنان على مثلث برمودا "المرأة – الأسرة – الرجل" في الخريطة، لن تنجو سفينة أي حل اجتماعي مارٍّ بجانبه من الغوص في أغواره. إذًا، فالأسرة (كدولة مصغرة) في الشرق الأوسط هي مثلث برمودا السابح في المحيط الاجتماعي، ولدى تصاعد الدولة والهرمية، محال ألا تتركا آثارهما على مؤسسة الأسرة بشكل مطلق، وأي هرمية أو دولة لا تعكس صداها على الأسرة، لن تعزز من فرص حياتها، ولن تؤمِّن سيرورتها. يتم تلمس هذه الثنائية الجدلية وتناولها بعناية فائقة، ودون أي إهمال، داخل الحضارة الشرق أوسطية.

من المهم بمكان وضع مشروع تخطيطي يتناول تاريخ عبودية المرأة وتحليلها من الناحية السوسيولوجية – ولو بشكل محدود – باعتبارها الجنس والنَّسَب والطبقة الأقدم في تعرضها للأَسْر والاستعباد؛ وإلا فمن الصعب تفهّم الأسرة والرجل، وبالتالي الدولة والمجتمع من الجوانب الأخرى، وسيتضمن فهمنا لها عندئذ نواقص حقيقية لا تُغتَفَر.

إني على قناعة تامة بأنه، وعبر هذا السرد التاريخي الموجز، ظهر لدينا بشكل أوضح، أن المشاكل المعاشة في الأسرة الشرق أوسطية في راهننا، لها من الأهمية ما للمشاكل المعاشة في الدولة منها. فالكبت والقمع والمشاكل الثنائية الاتجاه، تزداد في حدّتها فيها، أما انعكاسات مجتمع الدولة ونظام السلطة الأبوية عليها على مر التاريخ من جهة، وانعكاسات القوالب الحديثة للحضارة الغربية عليها من الجهة الثانية؛ فلا تشكل تركيبة جديدة، بل تخلق معها عقدة كأداء. فالانسداد المخلوق في الدولة يزداد تعقيدًا داخل الأسرة، ويُقحِم عجزُ الشبان اليافعين عن إيجاد عمل لهم، الأسرةَ في شلل حقيقي. باتت الأسرةُ المضبوطة حسب الدولة والاقتصاد، عالقةً في درب مسدود لا يمكن السير فيه، عبر هاتين الرابطتين القديمتين. فلا طراز العائلة الغربية متوطد، ولا طراز العائلة الشرقية. هكذا يتحقق التآكل والنخر في جسد الأسرة ضمن هذه الشروط.

يتأتى حفاظ الأسرة على قوَّتها قياسًا بالأواصر الاجتماعية المنهارة والمتفككة بسرعة أكبر، من كونها المأوى الاجتماعي الوحيد، وعلينا بالتأكيد ألا نستخف بالعائلة أو نستصغرها، والانتقادات التي طرحناها لا تستوجب رفض العائلة أو دحضها جذريًّا، بل تطرح ضرورة إكسابها معناها وإعادة بنائها.

من المهم طرح مشكلة الرجل أيضًا، والتي هي أكثر وطأة من مشكلة المرأة. فتحليل مصطلح الهيمنة والسلطة في الرجل، لا يقل أهمية عن تحليل عبودية المرأة؛ بل وقد يكون أكثر صعوبة. فالذي لا ينحاز إلى التحول بالأغلب هو الرجل، لا المرأة، ولو تركنا رمز الرجل المهيمن وشأنه، سيشعر بذاته كالحاكم المفتقد لدولته، فيتخبط في عواطف الفشل والهزيمة. في الحقيقة، علينا أن نُظهِر له بأن هذا الشكل الأجوف للهيمنة والتسلط هو الذي أفقده حريته، وجعله متزمتًا بشكل كلي.

إن القول بتناول مشكلة الدولة أولًا، ومن ثم مشكلة الأسرة؛ هو موقف خاطئ. يجب دراسة هاتين الظاهرتين المرتبطتين ببعضهما بروابط جدلية، ومعالجتهما بشكل متداخل معًا، والنتائج التي أسفر عنها الاعتقاد السائد في الاشتراكية المشيدة بحل مشكلة الدولة أولًا ومن ثم معالجة المجتمع، إنما هي ظاهرة للعيان. لا يمكن حل المشاكل الاجتماعية بإيلاء الأهمية لواحدة منها دون الأخريات. بل إن الأسلوب الأصح والأسلم هو النظر إلى المشاكل الاجتماعية ككل متكامل، وإيلاء المعاني لكل واحدة منها ضمن روابطها مع الأخريات، واتباع الأسلوب عينه لدى العمل على حلها. فبقدر ما يبرز النقص لدى تحليل الدولة دون تحليل الذهنية، أو تحليل الأسرة دون الدولة، أو تحليل الرجل دون المرأة؛ فسيبرز النقصان عينه لدى الهرع نحو الحل دون القيام بخلاف ذلك.

ثمة بضعة ظواهر أخرى تستوجب التعريف داخل المشاكل الشرق أوسطية، فظواهر الإثنية، الأمَّة، الوطن، العنف، الطبقة، المُلكية، والاقتصاد وغيرها؛ لا تزال بعيدة عن التعريف على الصعيد الاصطلاحي، واصطلاح الظواهر بمستواها التعريفي لا يزال غير منقّى من شوائب الدروع الأيديولوجية الشوفينية، ولم تُطرَح بعد القيمة العلمية الحقيقية لهذه الظواهر في الثقافة الشرق أوسطية. حيث يُنظَر إليها بمنظار الأيديولوجية الدينية، أو بمنظار القوموية الشوفينية؛ ليسفر ذلك عن نتائج مشحونة بالعقم والانسداد، حسبما يُرتأى لها. ولا تُطرَح في الميدان بعض التساؤلات، من قبيل: ما هي قيمة ومكانة وثقل ظواهر الإثنية، الأمة، الوطن، العنف، المُلكية والاقتصاد؟ عَمَّ تعبِّر العلاقة فيما بينها؟ بل ويُجعَل من الحقيقة ضحية للإرشادات الأيديولوجية السائدة. أما السياسة، فتقترب منها بتهكم وتهجم أناني عبر إرشادات أشد سوءًا. ولا تُولى أية فرصة لإبداء المواقف العقلانية المنطقية، أو العادلة الديمقراطية. وكأنه ثمة إحساس سائد يفيد بأن تنوير الظواهر بسلوكيات علمية خارج النطاق الأيديولوجي والسياسي، سيُفسِد كل الألاعيب المحاكة، وإبقاء الحقائق متوارية في الظلمات الداكنة في منطقة الشرق الأوسط، هو وظيفة مهمة أُنيطت بها السياسة والمجال التعليمي. وبدون النجاح فيها، يستحيل القيام بإجراءات فن السلطة. يمر إبطال السحر من الشفافية والنقاوة.

'الوطن'

إلى جانب امتداد مصطلح "الوطن" إلى القديم الغابر كمكان للاستيطان والاستقرار، إلا إنه حديث باعتباره الجغرافيا التي تستند إليها الدولة القومية، حيث تعمل بالحدود السياسية أساسًا بدلًا من الحدود الإثنية، والفارق الكامن بين الشرق الأوسط وأوروبا، هو أن الحدود التي تستند إليها الدولة، لا الحدود اللغوية، هي التي تحدد التخوم القومية في منطقة الشرق الأوسط، وفي هذه الحالة يغدو الوطن ظاهرة سياسية. فكل دولة تشكل وطنًا بمعناه العصري، ولا يمكننا صياغة تعريف صحيح للوطن عبر الاتجاهات الأيديولوجية والسياسية. هذا ولا تكفي الحدود اللغوية أيضًا لتشكيل الوطن. لذا، فتقييمنا له كمصطلح ثقافي سيقرِّبنا من الحقيقة أكثر. يمكن إطلاق تسمية الوطن على المساحات الجغرافية التي تتجاوز نطاق القومية السياسية وتمتلك تاريخًا أقدم منها بكثير، حيث استقرت فيها الشعوب القديمة على مر التاريخ الطويل. ومثلما يقال إنه لكل شعب وطن، فثمة أوطان مشتركة للشعوب المتعايشة بشكل متداخل أيضًا.

إذا ما تناولنا الشرق الأوسط ككل متكامل، فإن تقسيمه ضمن حدود على الطراز الأوروبي يخلق معه مصاعب شتى. ذلك أن التكامل والخاصيات متوطدان للغاية، فالروابط الاقتصادية والاجتماعية هي التي تحدد تسمية مكان ما بالاسم اللازم. أما التقسيمات السياسية الإرغامية، فليست وطيدة بقدر القيم المخلوقة عبر التاريخ. أدت الحدود السياسية المرسومة في نهايات الحرب العالمية الأولى، إلى تحريف مصطلح الوطن؛ أو بالأحرى إلى ولادة المشاكل المعنية بالوطن الحقيقي. إن الواقع السياسي المتكامل لمنطقة الشرق الأوسط يشل من واقعية الخريطة السياسية المعروفة اليوم. كما تستلزم ديناميكية السياسة تكامُلَ الساحات الجغرافية على نحو مغاير لما هي عليه، والوضع القائم يتطلب صراعًا دوليًّا عالميًّا، ويؤجج النعرات القوموية، كما هي الحال في المشكلة الفلسطينية – الإسرائيلية، أو في مشكلة كردستان العراق.

تقاليد الإمبراطورية الشرق أوسطية أقرب إلى الفيدرالية. فالبنية الإدارية والسياسية والاقتصادية التي شهدتها المنطقة كانت فيدرالية، منذ أولى الإمبراطوريات وحتى الإمبراطورية العثمانية الأخيرة. إنها فيدرالية مرتكزة إلى المناطق الواسعة الخاصة، وأشبه بحال الولايات المتحدة الأمريكية في راهننا، وتنبع المشكلة الأساسية للشرق الأوسط فيما يخص موضوع الوطن، من عدم العودة ثانية إلى الوضعية الفيدرالية التقليدية المألوفة، وإلى التجزئات والتقسيمات غير الواقعية، وغير اللازمة، وغير المجدية، فيما بين العديد من الدول القومية. ومن دون تخطي هذا الوضع، سيكون من الصعب بلوغ مفهوم أكثر واقعية بشأن الوطن والمواطَنة.

'المرأة'                        

تُشكِّل المرأة الشرق أوسطية عاملًا مزيفًا أقدم من الدولة ذاتها. حيث قُلِبَت كل فضائل الأنوثة وجنس المرأة رأسًا على عقب، وضُمِّنَت كل ما تمتلكه من مزايا تبعث على الفخر والاعتزاز والمشاطرة، ضمن هيمنة القانون الأخلاقي، وغدا النشاط الأولي والوحيد بالنسبة للمرأة المتحولة إلى أثمن مُلك للرجل الذي خرج من ذاته بسبب التقاليد الدينية، يتمثل في الطاعة المطلقة لرغبات رَجُلها. ما يمثله الإمبراطور بالنسبة للدولة، يمثله الرجل عمومًا، والزوج خصوصًا بالنسبة للمرأة. أما القرار المشترك والوفاق مع المرأة، فهما عيب وعار في لغة الرجولة. في حين تجد التبعية العمياء غير المضبوطة بأي مبدأ تجاه الزوج، تعبيرَها في الأخلاق بأنها فضيلة مثلى. إن المرأة على مسافة شاسعة من أن تكون قادرة على الدفاع عن ذاتها بحرية بأنها هي أيضًا جسد وروح. كما وهُمِّشَت وسُلِبَت منها قواها من قِبَل النسج السياسية والاقتصادية والاجتماعية، لدرجة باتت تبحث فيها عن رجل تتبعه بعبودية عمياء بكل ما في وسعها. لقد أُقحِمَت في حالة أنكى من الموت ذاته. وبما أن شقيقاتها من بنات جنسها يقبعن في الحالة نفسها، تكاد تنعدم النساء القادرات على فهمهن ووعدهن بحياة إنسانية حقة. هذا الواقع الثقافي المطوِّق للمرأة يفرض عليها الرضوخ الدائم، بحيث يصبح تحطمها وانكسارها أمرًا أكيدًا مهما قاومَت؛ اللهم إلا إذا فكرت في الانتحار! ومن بعدها تُسلَك جميع الأساليب الأنثوية الدنيئة الرزيلة، وتُدخَل تلك الأساليب في كل طرف فيها كإشارة تدل عليها.

إن الأنوثة حقًّا أصعب مهنة. فبينما تمر فترة العزوبة والعذرية كما الطعام الشهي الممدود على مائدة الذئاب الجائعة، تنتهي فترة الأمومة بالآلام الأليمة التي لا تنضب، نتيجة عمليات الولادة المتكررة، وتتحول تنشئة كل طفل إلى عذاب جسيم بحق. علاوة على أن آمالها تخيب وتخبو في حياة لا تَعِد بأي أمل من أجل ذلك الطفل. هكذا تضاف آلام جديدة إلى آلامها المتكدسة. لذا، تتصدر حالة المرأة وموقعها الاجتماعي لائحة الممارسات المجحفة وعديمة الرحمة في منطقة الشرق الأوسط.

تتحقق عبودية الشعوب أولًا في المرأة، وإن القول بأن واقع المرأة يحدِّد الواقع الاجتماعي بنسبة كبرى، هو اقتراح صائب، إذ تُشكِّل الذكورة المفرطة والأنوثة المفرطة ثنائية (قرينًا) جدلية في المجتمع الشرق أوسطي، وما يرجع إلى الرجل من هذا النمط من العلاقات، ليس سوى خصائص مضادة تتمثل في الرجولة المهيمنة الجوفاء. حيث يعكس الرجل الهيمنة التي تطبقها السلطة عليه، على المرأة، لتعكسها هي بدورها على الأطفال. وبالتالي، تكتمل فاعلية الهيمنة من الأعلى نحو الأسفل، ويسفر مستوى عبودية المرأة في هذه الآلية عن أكثر الظروف سلبية وسوءًا. أي أنه يطِّور على الدوام من مستوى عبودية المجتمع. هكذا يصبح بإمكان حزام السلطة الأعلى توجيه المجتمع الأنثوي المتولد، بكل سهولة. أما المرأة، ورغم الظلم القاسي المفروض عليها رغمًا عن إرادتها؛ فقد تحولت إلى وسيلة لتطبيق الظلم الأكبر على المجتمع أيضًا. جلي كل الجلاء مدى الصعوبة التي يلاقيها الشرق الأوسط من الداخل، بسبب العلاقات المفروضة على المرأة، بقدر الصعوبات الناجمة عن العلاقات الخارجية المفروضة عليه، والمقحِمة إياه في الاستسلام والخنوع.

انطلاقًا من هذه البواعث، فإن فرصة أي حركة في بلوغ المجتمع الجوهري والحر الراسخ، تكون محدودة ما لم تعتمد على عملية حرية المرأة، وعجز التوجهات المنادية ببلوغ السلطة والاشتراكية والتحرر الوطني وغيرها أولًا، عن الوفاء بوعودها وتحقيق المراد؛ إنما يَمُتّ بِصِلة بهذه الحقيقة. يشكل نضال حرية المرأة مضمون المساواة الاجتماعية والديمقراطية وحقوق الإنسان العامة، والتي تتجاوز إلى حد كبير إطار المساواة الجنسية.

تتمثل الخطوة الأولى الواجب خطوها على درب حرية المرأة في إيصالها إلى حالة قوة عملياتية جوهرية، والابتعاد عن المواقف التملكية المفروضة عليها. فمواقف العشق الدارجة كالموضة، والمشحونة بعواطف المُلكية، تحمل بين ثناياها العديد من المخاطر والمهالك، والعشق في المجتمع الذي تشيع فيه التقاليد الهرمية والدولتية، هو عبارة عن أفظع المغالطات والمخادعات، وهو العامل المؤثر في مواراة الذنوب المقتَرفة. يمر تقدير المرأة واحترامها، ومؤازرة حريتها أولًا من الاعتراف بالواقع المعاش، ومن إبداء الصدق والأمانة الحقيقيين في تجاوزه لصالح الحرية. حيث لا يمكن لرجل أن يتمتع بقيم الحرية السليمة، ما دام يُحُيي رجولته المهيمنة ـ أيًّا كان اسمها ـ في المرأة، ولربما كان تأمين تعزيز المرأة وتقويتها من الناحية الجسدية والروحية والذهنية، هو أثمن المحاولات والمساعي الثورية. أما إيصال المرأة إلى قوة إعطاء القرار وتحديد الاختيار باستقلالية وحرية على خلفية القيم الاجتماعية المتطورة، ومساهمتها في ذلك؛ فيتطلب بسالة حقيقية في الحرية، ضمن ثقافة الشرق الأوسط التي كانت نواة قوة الإلهة الأم في وقت من الأوقات.