المؤامرة الدولية.. مؤامرة ضد الشرق الأوسط
بعد اعتقال القائد عبد الله أوجلان شهد الشرق الأوسط أحداثاً متسارعة ساهمت في خلق أزمة حقيقية مستمرة إلى يومنا الراهن، والسبب الرئيس هو إجهاض عملية السلام والقضاء على أي فكر ديمقراطي في المنطقة والشرق الأوسط، والأهم هو القضاء على مفهوم حرب الشعب الثورية.

يعد الشعب الكردي من أعرق وأقدم الشعوب في الشرق الأوسط والعالم، فهو الشعب الذي ظهرت أولى الحضارات البشرية على أرضه، إلا أن هذا الشعب العريق لم يحظى بحقوقه المشروعة وفق الدساتير والأعراف الأممية ولا حتى الدينية منذ القضاء على الحضارة الميدية (728–550 ق.م)، التي وضعت الأسس التنظيمية والإدارية والسياسية والعسكرية، بالإضافة للألقاب الرسمية وتنظيم إدارة الدولة والمصطلحات العسكرية، وكلما سعى الشعب الكردي لنيل حقوقه تعرض لحملات إبادة وصهر، وهنالك عشرات الأمثلة الحية على ذلك.
ففي العصر الحديث أخمدت كافة الانتفاضات التي قادها الشعب الكردي من أجل حريته ونيله لحقوقه المشروعة، وسعت القوى المستعمرة وفي مقدمتها دولة الاحتلال التركي للقضاء عليها عبر حياكة المؤامرات والحملات العسكرية ضدهم، بدءاً من انتفاضة محمود البرزنجي الأولى في جنوب كردستان (1919-1922)، وانتفاضة سمكو آغا شكاكي في روجهلات (1918- 1922)، وصولاً إلى انتفاضة كوجكري في باكور كردستان (1921)، مروراً بانتفاضة الشيخ سعيد (1925)، وانتفاضة ديرسم (1937- 1938).
كافة الانتفاضات الكردية أُخمدت عبر القضاء على قادة الانتفاضة، لذلك سعت دولة الاحتلال التركي للقضاء على حركة حرية كردستان عبر القضاء على القائد عبد الله أوجلان بمؤامرة دولية، نفذت أولى خيوطها في 9 تشرين الأول من عام 1998، الذي قدم إلى سوريا قبيل الانقلاب الذي وقع في تركيا عام 1980.
سير خط المؤامرة في الداخل
شهدت فترة السبعينات من القرن الماضي فترة مليئة بالأحداث والتطورات، وهضم حقوق الشعب الكردي في عموم كردستان وبشكلٍ خاص في باكور كردستان، وسعت السلطات الحاكمة في تركيا للقضاء على أي حركة أو حزب يغرد خارج سربها، ويقول القائد عبد الله أوجلان في مرافعته المعنونة بـ "الحضارة الديمقراطية- القضية الكردية وحل الأمة الديمقراطية"، عن تلك الفترة: "كان أبسط نقاش أو أطروحةٍ مضادة يُحاكم على أنه أخطرُ جرم يهدد وحدة الوطن وسيادته، ويعاقب بأشد العقوبات".
وبعد الإعلان عن تأسيس حزب العمال الكردستاني بقيادة القائد عبد الله أوجلان في تركيا وباكور كردستان عام 1978، حاولت الدولة التركية القضاء على الحزب وقيادته بكافة الطرق والسبل، لذلك خرج القائد عبد الله أوجلان من تركيا صوب روج آفا عام 1979، وبعدها بعام حدث الانقلاب العسكري في تركيا، في 12 أيلول عام1980، بقيادة الجنرال التركي كنعان افرن، بهدف إفشال وهزيمة الحركات الثورية، وتحولت جميع المراكز ومؤسسات الدولة إلى سجون، وباشرت السلطات التركية بعمليات الاعتقال والاختطاف ضد المناضلين من أجل الحرية والنشطاء الديمقراطيين، ومعظمهم كانوا من قياديي ومناصري حزب العمال الكردستاني، واعتقلت السلطات التركية العشرات من قيادي الحزب أمثال مظلوم دوغان ومحمد خيري درموش وكمال بير وعاكف يلماز وعلي جيجك، ومظفر آياتا ومصطفى قره سو.
وفي آذار عام 1981 بدأ كوادر وقادة حزب العمال الكردستاني إضراباً عن الطعام ضد نظام الشدة والتعذيب في سجن آمد، واستشهد العديد من كوادر حزب العمال الكردستاني تحت التعذيب.
وقتها قال القيادي مظلوم دوغان عن مستوى التعذيب ونظام الحرب النفسية على المعتقلين في سجن آمد: "لماذا لا يمكن لأحد أن يكون نوراً ضد هذا الظلام؟ سأكون ضوءاً ضد الظلام".
وفي 20 آذار 1982 عشية نوروز قام بعمل فدائي وضحى بنفسه واستشهد تحت شعار "المقاومة هي الحياة، الاستسلام هو الموت". بعدها تتالت العمليات الفدائية ووصل صداها لكافة أصقاع الأرض.
عقب مقاومة سجن آمد، وانطلاق قفزة 15 آب عام 1984، طوّر القائد أوجلان أسلوب النضال والكفاح ضمن مفهوم وفلسفة حرب الشعب الثورية، وقد أوضح القائد عبد الله أوجلان: "في غضون الفترة الممتدة من سنة 1987 إلى حين خروجي من سوريا في التاسع من شهر تشرين الأول سنة 1998، قمت بذات نفسي بإعداد الحملات المضنية والمتوالية دون انقطاع وبتفعيلها على أرض الواقع بدأب مذهل؛ سعياً مني إلى إفراغ الانتهازية المفروضة علينا من مضمونها، وإلى شل تنظيمي الكونتر كريلا وJITEM".
وأكد القائد "ما كان لهذه الجهود الحثيثة أن تُحقق النصر بمفردها، ولكنها كانت قادرة على شل تداعيات مساوئ الانتهازية ومخططات الكونتر كريلا في تصفيتنا، وإفراغها من فحوها. وهذا ما حصل فعلاً مع وصولنا لأواخر عام 1998".
إن تموقع القائد عبد الله أوجلان في الشرق الأوسط ساهم في تلبية متطلبات حرب الشعب الثورية وخلق بيئة مساعدة وداعمة لهذه الحرب، وإغلاق الباب أمام فرض إملاءات الغير وتقديم التنازلات بصددها. ويؤكد القائد أوجلان في هذا الصدد: "لقد كان وضع استراتيجي بالغ الأهمية، حيث كانت الظروف مناسبة للغاية على صعيد تصعيد الحرب الشعبية، سواء من حيث عقد العلاقات الاستراتيجية، أم على صعيد تأمين وتغطية الدعم التكتيكي في حقل التدريب والاحتياجات اللوجستية بوجهٍ خاص".
المؤامرة الدولية
فشلت الدولة التركية في القضاء على حزب العمال الكردستاني، لذلك لجأت لدول الحداثة الرأسمالية، ففي عام 1988، أقيمت مناورة في الولايات المتحدة الأميركية تحت اسم "إخماد انتفاضة شرق تركيا بواسطة الجيش التركي وجيش الولايات المتحدة الأميركية"، والهدف الرئيس كان القضاء على حزب العمال الكردستاني.
عقب مناورة "إخماد انتفاضة" بين أميركا وتركيا، ومع بداية عام 1989 باشرت تركيا بتنظيم حملة دولية من أجل إخراج القائد عبد الله أوجلان من سوريا، مستغلةٍ الضعف والتشتت العربي، والتقرب من إسرائيل في إطار الصراع العربي- الإسرائيلي، والتحكم بجريان نهري الفرات ودجلة.
وفي 6 أيار من عام 1996، حاولت دولة الاحتلال التركي وعبر شبكة الغلاديو اغتيال القائد أوجلان في العاصمة السورية دمشق، عبر عربة مفخخة إلا أن المخطط فشل، ولم يحقق أية نتيجة، لذلك بدأت بالضغط على حكومة دمشق من أجل إخراج القائد عبد الله أوجلان من سوريا.
خرج القائد أوجلان من سوريا بعد تهديدها من قبل تركيا بدعم مباشر من أميركا ودول الناتو بشن حرب عليها، رضخت سوريا في نهاية المطاف للضغط التركي وغادر القائد عبد الله أوجلان في 9 تشرين الأول 1998، وكانت المخابرات الإسرائيلية الموساد ترصد تحركات القائد في سوريا، توجه القائد عبد الله أوجلان في البداية إلى موسكو وبعدها توجه إلى روما ومنها إلى اليونان ومن ثم إلى كينيا، وفي تلك الفترة حذرت أميركا روسيا وكل الدول الأوروبية من مغبة منح المأوى واللجوء للقائد عبد الله أوجلان، ويؤكد القائد عبد الله أوجلان: "إنّ خروجي من سوريا مرتبط بالعملية التي نفذتها شبكة غلاديو التابعة للناتو".
وصرح حينها رئيس أركان جيش الاحتلال التركي إيلكر باشبوغ: "الولايات المتحدة سلمت عملياً أوجلان إلى تركيا وذلك بهدف تحييده والسيطرة على الحزب". ويؤكد القائد عبد الله أوجلان عقب المؤامرة: "إنني أرى أن المؤامرة الدولية التي أسفرت عن جلبي إلى تركيا في 15 شباط 1999، إحدى أهم أحداث التقاليد التآمرية للسلطات المهيمنة، سيرتي التي ابتدأت في التاسع من تشرين الأول 1998 بخروجي من سوريا ووضع قدمي على أرض أثينا، استمرت مع روسيا وإيطاليا، واضطراري للعودة إلى روسيا واليونان مرة أخرى، ثم وَصَلَتْ إلى مرحلتها النهائية باختطافي في كينيا، سبب تسميتي لسلسلة الأحداث هذه التي ضمت ائتلاف قوى دولية من أربع قارات بالمؤامرة الدولية، هو أنها سياق منسوج من الألاعيب السياسية والمصالح الاقتصادية إلى جانب الكثير من الخيانة والعنف والخداع".
وحول تاريخ جلب القائد عبد الله أوجلان إلى تركيا أي 15 شباط 1999، يوضح ما يلي: "إن تاريخ الإتيان بي إلى تركيا كان في الـ 15 من شباط، يصادف هذا التاريخ يوم بدء المؤامرة ضد الشيخ سعيد (15 شباط 1925). كما صدر قرار الإعدام بحقي في 29 حزيران 1999، بعد محاكمة صورية في الجزيرة، كانت أقرب إلى المسرحية في توقيت يصادف اليوم الذي أُعدم فيه الشيخ سعيد مع مجموعة من رفاقه".
الخلاصة
السبب الرئيسي لاعتقال القائد عبد الله أوجلان هو إجهاض عملية السلام التي أطلقها أولاً، وثانياً للقضاء على أي فكر ديمقراطي في المنطقة والشرق الأوسط، والأهم هو القضاء على فلسفة حرب الشعب الثورية، ويؤكد القائد عبد الله أوجلان أن السبب الرئيس والواضح للعيان في تلك الفترة: "إن كلاً من إسرائيل وأمريكا لم تكونا في مصاف الحل السلمي والسياسي قطعياً آنذاك، أي إلى حين اعتقالي، بل كانتا تتطلعان بإصرار شديدٍ إلى استمرار الحرب، ولو بمستوى منخفض وإلى تخبط القضية الكردية في العقم واللاحل، إذ كانتا بأمس الحاجة إلى ذلك في سبيل التحكم بزمام الأمور في الشرق الأوسط عموماً، ولأجل إسقاط الحكم في العراق خاصة، حيث ما كان لهما أن تحدا من فاعلية تركيا، ولا أن تطبقا مخططاتهما، إلا عن طريق ذلك".
إن المؤامرة الدولية التي طالت القائد عبد الله أوجلان، هي مؤامرة استهدفت عموم الشرق الأوسط، وهي بداية التدخل الغربي بقيادة الولايات المتحدة الأميركية في الشرق الأوسط بعد الحرب العالمية الثانية بحجة جلب الديمقراطية، فبعد اعتقال القائد عبد الله أوجلان غزت أميركا العراق عام 2003، وأنشأت القواعد العسكرية في العديد من مناطق الشرق الأوسط، وأجبرت سوريا على التنازل عن لواء إسكندرون لصالح تركيا عام 2004، وصولاً إلى موجة ما تعرف بالربيع العربي عام 2010.
ويشهد الآن الشرق الأوسط أزمة حقيقية، تتفاقم يوماً بعد يوم، فالعراق ومنذ التدخل الأميركي لم يشهد استقراراً حتى الآن، ومعظم الشعوب في الشرق الأوسط تعاني من أزمات الأنظمة القومية الحاكمة، ومعظم الدول التي شهدت ما تعرف بالربيع العربي لم تشهد أي استقراراً بعد، وفي مقدمتها سوريا وليبيا واليمن، لذلك صرح القائد عبد الله أوجلان في آخر لقاء جرى بينه وبين محاميه في 7 آب 2019، أي أثناء استعداد دولة الاحتلال التركي لشن هجوم ضد روج آفا، بالقول: "لدي القدرة على حل الأزمة العالقة، وإسكات صوت السلاح في غضون أسبوع واحد، ونستطيع خطو خطوات كبيرة في سبيل ذلك". لذلك فُرضِت عليه عزلة مشددة مستمرة حتى يومنا الراهن.
تم اعتقال القائد عبد الله أوجلان إلا أنه واصل نضاله ضمن سجن إمرالي، وأفرغ المؤامرة الدولية من مضمونها عبر طرح مفهوم الأمة الديمقراطية، وتطوير مفهوم حرب الشعب الثورية التي وصلت لأوجها الآن في عموم كردستان، وبشكلٍ خاص في روج آفا وشمال وشرق سوريا. وتبني الآلاف من المثقفين والباحثين والأكاديميين في الشرق الأوسط والعالم أفكار وفلسفة القائد عبد الله أوجلان.
المؤامرة الدولية بحق القائد أوجلان مستمرة إلى يومنا الراهن، وتتجدد بطرق وأساليب مختلفة، ففي 9 تشرين الأول من عام 2019 شنت دولة الاحتلال التركي هجوماً احتلالياً على منطقتي كري سبي وسري كانيه، وفي 9 تشرين الأول عام 2020 أبرمت اتفاقية بين حكومة الكاظمي والحزب الديمقراطي الكردستاني من أجل إجهاض تجربة الإدارة الذاتية في شنكال، وشددت العزلة بحق القائد عبد أوجلان، وكثفت دولة الاحتلال التركي من هجماتها ضد جنوب كردستان مستخدمةٍ كافة صنوف الأسلحة الحديثة والمحرمة دولياً، وسط صمت دولي، وهذا دليل على أن دول الهيمنة الرأسمالية وفي مقدمتهم أميركا وإسرائيل لا تودان إيقاف الحرب في الشرق الأوسط.
(ك)
ANHA