انتفاضة الشيخ سعيد.. الكفاح الذي لم ينتهِ إلى اليوم

واجهت الانتفاضات والحركات الكردية خلال القرن العشرين، سياسات صهر وإبادة ملايين الكرد في كردستان، إذ شكّل الكفاح المسلح الممتد من انتفاضة الشيخ سعيد بيران إلى النضال الفكري والعسكري لحركة التحرر الكردستانية، الأمل للشعب الكردي لنيل حقوقه المشروعة.

انتفاضة الشيخ سعيد.. الكفاح الذي لم ينتهِ إلى اليوم
30 حزيران 2024   05:01
مركز الأخبار

تُعدّ انتفاضة الشيخ سعيد بيران أول انتفاضة كبرى شهدها شمال كردستان، عقب الإعلان عن تأسيس مصطفى كمال أتاتورك للجمهورية التركية عام 1923.

ويعتقد الكثيرون أن توقيتها الذي أعقب اتفاقية لوزان وتثبيت أركان الدولة التركية، كان سبباً في فشلها، حيث لم تستغل الشخصيات الكردية آنذاك، انشغال العثمانيين في الحرب العالمية الأولى أو أثنائها 1914 – 1918، للحصول على حقوق للكرد.

تأسيس الجمهورية التركية وفرض التتريك على المكونات الأخرى

على أنقاض دولة الخلافة، بنى أتاتورك الدولة التركية الحديثة على أساس الهوية التركية التي عبّر عن مدى عشقه لها بتصريحه الشهير "سعيدٌ من يقول إنه تركي"، كبديل للدولة العثمانية. وأسس بُنيانها على القومية التركية التي فرضها على جميع قاطني حدودها، بمن فيهم الكرد، ورفض بشدة السماح لهم بأي شكلٍ لحُكم منفصل.

في 1923 تأسست منظمة "آزداي" الكردية برئاسة خالد جبري وعضوية يوسف ضياء وكمال فوزي والشيخ سعيد بيران، للعمل على استقلال كردستان ومقاومة سياسات التتريك التي فرضها أتاتورك على القرى الكردية، مثل فرض اللغة التركية في المناهج الدراسية والأوراق الرسمية وتسمية هذه القرى بأسماء تركية.

وبدعوى تخطيطه للقيام بثورة ضد نظام الحكم، أُلقي القبض على خالد جبري وأُعدم، فحلَّ محله الشيخ سعيد في قيادة المنظمة، وكان يتمتّع بمكانة اجتماعية مهمة بفضل رئاسته للطريقة النقشبندية وعلاقاته القوية مع باقي الزعماء الكرد.

اندلاع ثورة الشيخ سعيد بيران

بدأت الأزمة، عندما قدِمت فرقة عسكرية تركية إلى بلدة بيران لاعتقال بعض أهل البلدة، في ظِل وجود الشيخ سعيد وعددٍ من رفاقه، حيث وقع اشتباك بين الطرفين، قُتل فيه أغلب عناصر الفرقة التركية وأُسر قائدها.

تسبّب هذا الحادث في إشعال الانتفاضة الكردية قبل موعدها الذي خطط له الشيخ سعيد. في البداية نجح الثوار في تحرير عدة مناطق شرق تركيا، منها محافظة "كينجو" التي أعلنوها محافظةً مؤقتة للإدارة الكردية المستقلة الجديدة.

فرض الثوار الحصار على مدينة آمد التي صمدت في وجههم، حتى وصول قوات الاحتلال التركي المعززة بالأسلحة الثقيلة، ولم يتمكن الثوار من تحرير المدينة على الرغم من اقتحامهم لها، فأمر الشيخ سعيد قواته بالتراجع، وحاصرت قوات الاحتلال التركي الثوار ومنعتهم من دخول العراق وسوريا وإيران.

توجهت قوات الاحتلال إلى المناطق الكردية في حملة عسكرية ضخمة ضمت 70 ألف جندي، مزودين بأسلحة ثقيلة وطائرات حربية لتحاصر الثوار الكرد.

اعتقال الشيخ سعيد وقياديي الثورة وإعدامهم

اعتقل الجيش التركي قائد الانتفاضة الشيخ سعيد بيران، وعدداً من أعضاء اللجنة القيادية ليلاً، على جسر فارتو على نهر الفرات، إثر خيانة (قاسو) الشخص الذي كان دليلاً للقافلة.

حيث دخلت ثلاثة كتائب من جيش الاحتلال التركي بالإضافة إلى 150 ألفاً من الكرد الخائنين، إلى ميدان القتال، وخاصة في جبهة آمد، واشتدت حدة القتال بينهم، ومن ثم تسببت تلك الأنباء بانهيار المقاومة الكردية.

منتصف عام (1925)، صدر حكم الإعدام بحق زعماء الانتفاضة، البالغ عددهم 49 مناضلاً، بينهم سعيد بيران، وأُعدموا شنقاً في ميدان بوابة الجبل بمدينة آمد، وقد وُضعت منصات المشانق على نسق واحد، بعدما سيقوا إلى محاكم عسكرية عُرفت باسم "محاكم الاستقلال".

استمرت المذابح التركية ضد الكرد إلى شهر رمضان مطلع شباط (1928)، حيث أحرقت حكومة أتاتورك الوحشية أكثر من 600 قرية وهجّرت قسراً أكثر من 700 ألف من الثوار والمناضلين الكرد، وطال ذلك أُسَرهم، دون مراعاة لأي أثر إنساني، إلى داخل الأناضول لصهر هويتهم وتفكيك تركيبتهم السكانية من كل الجهات، الدينية واللغوية والثقافية.

انتفاضات أعقبت انتفاضة الشيخ سعيد بيران

إلى جانب مأساة الحربين العالميتين الأولى والثانية، وإبادة الأرمن على يد العثمانيين، كان للكرد نصيب كبير من عمليات الإبادة الجسدية خلال القرن الماضي، والتي كانت توازي حملات الإبادة الثقافية ضد ملايين الكرد، بهدف إنهاء وجودهم.

لا يمكن وصف جميع الانتفاضات والحركات الكردية التي شهدتها كردستان خلال القرن العشرين بالفاشلة، فعلى الرغم من الانقسام الاجتماعي الذي خلقته القوى المحتلة في كردستان، وتأجيج الصراعات الطبقية والدينية والقومية، كان هناك من يحاول الوقوف في وجه هذه الصراعات والانقسامات واضطهاد السلطة، للحفاظ على الهوية الكردية وبناء مجتمع حر، بعيداً عن التدخلات الخارجية.

واصطدمت الانتفاضات التي شهدتها آكري وقوجكري وديرسم وحركة الشيخ محمود البرزنجي وإعلان جمهورية مهاباد بقيادة قاضي محمد، بحروب عنيفة أودت بحياة عشرات الآلاف في إطار سياسات خبيثة بين القوى العالمية آنذاك، وفي مقدمتها بريطانيا والاتحاد السوفييتي والقوى الإقليمية، وفي مقدمتها العثمانيون ووريثتهم الدولة التركية.

عقب ذلك، بدأت بوادر صهر المجتمع الكردي بثقافته ولغته ضمن المجتمعات العربية والتركية والفارسية، من خلال سياسات إقليمية أجمعت عليها الأنظمة الحاكمة المحتلة لكردستان، منذ سبعينيات القرن الماضي، كالحزام العربي الذي نفذته حكومة دمشق والقمع التركي لجميع الحركات السياسية والنشاطات الكردية في تركيا، إلى عمليات القمع السياسية والاجتماعية للكرد في إيران وشرق كردستان.

الكفاح المسلح مستمر ضد الدولة التركية

صدم حزب العمال الكردستاني الذي تأسس في جحيم الصراعات داخل تركيا، الأنظمة الحاكمة في كردستان، لا سيما عقب تنفيذه لعمليات عسكرية على الحدود السياسية التركية لأول مرة عام 1984، والبدء بمرحلة جديدة نحو انتزاع حقوق الشعب الكردي.

عدّت الدولة التركية والأنظمة الحاكمة لكردستان أن حزب العمال الكردستاني مجرد حركة عابرة كغيرها من الحركات التي سبقتها، وأعلن المسؤولون الأتراك مراراً وتكراراً إمكانية القضاء على الحزب خلال مدة قصيرة. إلا أنه لعب دوراً كبيراً بقيادة القائد عبد الله أوجلان دوراً تاريخيّاً في إحياء القضية الكردية، وإفشال مخطط إرساء الهيمنة الغربية على الشرق الأوسط عن طريق تركيا، ومن هنا يمكن فهم أسباب قيام الدول الغربية بأكبر مؤامرة في التاريخ، انتهت باختطاف القائد عبد الله أوجلان في 15 شباط 1999 في العاصمة الكينية نيروبي.

يخوض الحزب كفاحاً مسلحاً منذ أكثر من 40 عاماً، وحصل الكرد في الأجزاء الأربعة من كردستان على بعض حقوقهم بفضل هذا الكفاح الذي تطور من كفاح في جبال كردستان إلى كفاح اجتماعي وسياسي وعسكري في جميع المناطق الكردستانية، ضد سياسة الإبادة بحقهم في أول تطور كبير على صعيد القضية الكردية عقب قرن من الانتكاسات.

الكرد يمدّون يد السلام وتركيا ترفض

على الرغم من سعي حركة التحرر الكردستانية، عدة مرات، لمد يد السلام للدولة التركية وحل القضية الكردية، وخاصة في الفترة الممتدة بين عامي 2013 و2015، عندما أعلن القائد عبد الله أوجلان بداية مرحلة السلام معها، فإن دولة الاحتلال التركي أصرت على إبادة الكرد أينما وجدوا.

بدأت الدولة التركية في 24 تموز عام 2015 هجوماً؛ استهدف أكثر من 15 مدينة في شمال كردستان، كان لها الفضل الأكبر في إلحاق الهزيمة بداعش في المعركة التاريخية في كوباني، إذ انتفضت هذه المدن، حتى أن شبانها حاربوا في كوباني ضد داعش، ما أثار غضب دولة الاحتلال التركي؛ لفشل مخططها في سوريا تحت عباءة داعش، ودمرت هذه المدن بشكلٍ كبير في ثاني أعنف معركةٍ ضد المدنيين الكرد، بعد إحراق 4000 قرية في تسعينيات القرن الماضي، وتهجير مئات الآلاف من السكان الكرد من ديارهم.

استخدام الأسلحة الكيماوية واغتيال الشخصيات الوطنية وإثارة العنصرية ضد الكرد

منذ 17 نيسان عام 2022، لم تتوقف تركيا التي تتلقى دعماً لا نهاية له من الناتو، عن قصف جبال كردستان بالأسلحة الكيماوية والمحرّمة دولياً، وسط مقاومة أسطورية لمقاتلي الكريلا هناك.

في روج آفا، لم تتوقف المدفعية والطائرات التركية عن قصف المناطق الآهلة بالسكان منذ 9 سنوات، وشهد عام 2022 ذروة هذه الهجمات الوحشية ضد المنطقة، وليست هناك إحصائيات دقيقة عن عدد الضحايا المدنيين جراءها، إلا أن العشرات فقدوا حياتهم.

أما في جنوب كردستان (باشور) فلم تتوقف الطائرات الحربية التركية عن قتل المدنيين؛ ومجزرة دهوك في 20 تموز عام 2023 كانت شاهداً على مدى وحشية دولة الاحتلال التركي ضد الكرد، عندما فقد 9 مدنيين حياتهم، بينهم طفل لم يبلغ عامه الأول، وجرح 23 آخرون في قصف جوي نفذته الطائرات التركية، طال مصيفاً سياحياً في قضاء زاخو بمحافظة دهوك.

ولم تسلم الشخصيات الوطنية والسياسية في جنوب كردستان التي تحولت إلى ساحة للقواعد العسكرية والاستخباراتية التركية، من عمليات الاغتيال التي نفذتها الدولة التركية، كاستهداف السياسي الكردي وأحد أعمدة الإدارة الذاتية في شمال وشرق سوريا، فرهاد شبلي بطائرة مسيّرة بالقرب من السليمانية، والشخصية الوطنية، محمد زكي جلبي الذي اغتيل على يد الاستخبارات التركية أمام مطعمه في مدينة السليمانية.

كما أدى هجوم مسلّح شنته استخبارات الاحتلال التركي إلى استشهاد الأكاديمية والناشطة ناكهان أكارسال، التي كرست حياتها لنضال المرأة تحت شعار ". Jin, Jiyan, Azadî المرأة، الحياة، الحرية"، بالقرب من منزلها بحي بختياري في مدينة السليمانية 4 تشرين الأول 2022.

أما في شمال كردستان، إلى جانب الإبادة السياسية للأحزاب والنشاطات الكردية؛ فقد باتت مشاهد الاعتداءات العنصرية ضد الكرد أمراً متكرراً، في ظل شحن المسؤولين الأتراك للرأي العام التركي بالخطابات العنصرية والكراهية ضد الكرد، إذ خلّف ذلك مجزرة قونيا التي راح ضحيتها 7 أفراد من عائلة واحدة، إلى جانب قتل الناشطة الكردية، دنيز بويراز في قلب مدينة أزمير على يد عنصريين أتراك، بالإضافة إلى حادثة طعن الشاب باريش تشاكان، بحجة أنه استمع للأغاني الكردية، وغيرها من عمليات القتل التي طالت وتطال الكرد يومياً.

خارج كردستان وعقب 10 أعوام من مجزرة باريس الأولى 2013، استهدفت دولة الاحتلال التركي إرادة المرأة الحرة، عن طريق اغتيال، أمينة كارا القيادية في حركة المرأة، والفنان الكردي اللاجئ، مير برور، والوطني عبد الرحمن كزل، وإصابة آخرين أيضاً في باريس عام 2023.

مجزرة باريس الثانية؛ كشفت عن مدى الخطر الذي يهدد الوجود الكردي في جميع أصقاع الأرض في ظل التشعبات الاستخباراتية لتركيا ودول حلف شمال الأطلسي والخطاب العنصري والكراهية التي تتبناها دولة الاحتلال التركي ضد الكرد.

وفي مسعى من دولة الاحتلال التركي الحد من انتشار أفكار القائد عبد الله أوجلان، تفرض عليه في سجن إمرالي عزلة مطلقة، بدأت مع آخر لقائه بمحاميه في 7 آب 2019، فيما كان آخر تواصل له مع العالم الخارجي في 25 آذار 2021، خلال اتصال هاتفي مع شقيقه محمد أوجلان لـ 5 دقائق ثم قُطع الاتصال.

(ز س/د)

ANHA