ضدّ مجرمي النظام الطبقي- نوبلدا كاندال

"المرأة هي المستعمرة الأولى في التاريخ" هذه العبارة ليست تعريفاً مثيراً للاهتمام فحسب، بل أيضاً وصفٌ لانهيارٍ اجتماعي ممنهج استمر لآلاف السنين، ففي مسيرة الحياة الاجتماعية، من العصر الحجري الحديث (العصر النيولوتي) إلى تأسيس مؤسسات الدولة الأبوية، عانت النساء من الإقصاء والقمع والسيطرة اجتماعياً وفكرياً وسياسياً، إلّا أنّ هذا الإقصاء اصطدم بالمقاومة، فلم تكتفِ النساء بحماية وجودهن فقط، بل اتّجهن أيضاً إلى بناء أسلوب حياة، وبناءً عليه، وفّرت الكونفدرالية التي ترفض التسلسل الهرمي الاجتماعي والملكية والمركزية، أساساً متيناً ولافتاً لسعي المرأة إلى الحرية.
لآلاف السنين، لم تذكر المرأة في سرد التاريخ، مع أنّه في المجتمعات الأولى، كانت معرفة الإنتاج والعلوم الطبيعية وأشكال التنظيم الاجتماعي من صنع النساء إلى حد كبير، وكانت المرأة في البُنى الاجتماعية الأمومية أو المساواتية محور الحياة، وتُعد تماثيل الآلهة ووسائل وأدوات الصناعة والإنتاج ورموز الخصوبة التي عُثر عليها في مواقع العصر النيولوتي دليلاً تاريخياً على ذلك، لكن مع الثورة الزراعية، تطوّر مفهوم الهيمنة على الطبيعة والمرأة، ومع ظهور الملكية، تمّ قمع هوية المرأة واضطهدت.
لم يكن هذا التحول مجرّد تغيير في السلطة، بل كان أيضاً تقييداً وقمعاً ثقافياً وفكرياً، عُدَّت معرفة المرأة خرافة، وجُرّدت تجربتها من قيمتها، وطُردت من المجتمع، جعلت الحضارة الذكورية من الرجال آلهةً، واعتبرت الطبيعة والنساء من التوابع ووصفهما بـ "الأخريات" بحيث يجب السيطرة على النساء والتحكم فيهن، ولم يقتصر هذا الوضع على الشرق الأوسط، بل امتدّ إلى جميع أنحاء العالم، وكانت حملات مطاردة الساحرات في أوروبا والنظام الطبقي في الهند والأرستقراطية في آسيا، جميعها انعكاسات للنمط الفكري نفسه.
إنّ النظام الأبوي ليس مجرد هيكل يسيطر فيه الرجال على النساء بشكل مباشر، بل هو شكل من أشكال التنظيم يُنظّم المجتمع هرمياً، ويجعل السلطة مركزية ويقمع المكونات المختلفة، ووُضعت النساء في أدنى مستويات النظام، لكن هذا عزّز لديهن الوعي بضرورة النضال ونيل الحرية.
والحركات النسوية اليوم والإضرابات النسائية والأصوات التي تعالت من أجل جينا أميني في إيران ومجالس المرأة في روج آفا، والهياكل الجماعية التي تقودها النساء في أفريقيا، كلها وليدة هذا الوعي، فلم تعد النساء يطالبن بحقوقهن فحسب، بل يُسهمن أيضاً في بناء المجتمع.
إنّ الكونفدرالية شكل من أشكال التنظيم الاجتماعي يتطوّر ضدّ البنية المركزية والأحادية والذكورية للدولة القومية الحديثة، ونموذج الكونفدرالية الديمقراطية الذي حدده القائد عبد الله أوجلان هو نظام يحكم فيه الشعب نفسه، وتسير فيه عمليات صنع القرار بشكل جماعي، والمساواة بين الجنسين فيه هي المبدأ الأساسي. في هذا النظام، لا توجد سلطة، والحياة منظمة، والجهات الفاعلة الرئيسية التي تنظم الحياة هي النساء.
إنّ العلاقة التي تقيمها الكونفدرالية الديمقراطية مع النساء لا تعتبرهن مجرد عنصر تمثيلي، بل تراهنّ كفاعل يبني ويحافظ على النظام ويغيره، فالنساء في هذا النموذج لسن فئات، بل نماذج، إنّها تطرح رؤية اجتماعية وحياتية موحدة، معارضة لسياسات الهيمنة الذكورية، لذا، فإنّ مجالس المرأة التي تمّ إنشاؤها في روج آفا ليست مجرد أماكن لمناقشة مشاكل المرأة، بل هي أيضاً أماكن لتغيير المجتمع بأكمله.
لا يقتصر تحرير المرأة على القضاء على الظلم فحسب، بل يشمل أيضاً بلوغ مستوى جديد من الوعي، ويشمل هذا الوعي الدفاع عن النفس، التنظيم وإيجاد أشكال بديلة للإنتاج والحياة، إنّ وعي المرأة الحرة هو وعي يرفض الصمت الذي فرضه التاريخ عليها، ويحيي ذكراها العريقة، ويهدف إلى تغيير المجتمع جذرياً.
لا يبرز هذا الوعي في الشرق الأوسط فقط، بل أيضاً في التجمعات النسائية في أمريكا اللاتينية، والحركات النسوية البيئية في أوروبا، والتعاونيات النسائية في أفريقيا. يوفر الهيكل الكونفدرالي أساساً منهجياً ومؤسسياً لهذا الوعي، ويُعدّ كل من نظام الرئاسة المشتركة وأكاديميات المرأة ولجان عدالة المرأة ومجالس المرأة أشكالاً ملموسة لوعي المرأة الحر في التنظيم الاجتماعي.
والكونفدرالية ليست عبارة عن نموذجٍ سياسيٍ فحسب، فهي أيضاً مفهوم أخلاقي للحياة، وبناءً على هذه الرؤية، ينشأ أيضاً تعايشٌ حرٌّ يُبنى مع امرأة حرة، هذا النمط من الحياة ليس حياةً يعيش فيها الرجال والنساء معاً فقط، بل حياةٌ يتحررون فيها معاً، إذ تُدرك المرأة أنّ حريتها ناقصة ما لم يتحرر الرجل أيضاً، من ناحية أخرى، يُدرك الرجال أيضاً أنّه لا يمكنهم تحقيق مجتمع يليق بالكرامة الإنسانية دون الاعتراف بعدالة المرأة.
لذا، فإنّ التعايش الحرّ ليس مجرد نموذج اجتماعي، بل هو ثورة أخلاقية، وعلى عكس الحضارات القائمة على اضطهاد المرأة، تنبثق حضارة جديدة قائمة على المساواة والحرية، وتبني الكونفدرالية الديمقراطية الأساس الأخلاقي والسياسي لهذه الحضارة.
في إطار الهياكل الكونفدرالية، تصبح المرأة كياناً لا يُمثَّل فحسب، بل يُعيد بناء المجتمع أيضاً، وأكاديميات المرأة في روج آفا ليست مراكز تعليمية فحسب، فهي تُنتج أفكاراً حول الأخلاق والتاريخ والسياسة والحياة، إنّ الوعي الذي يتطور في هذه المراكز هو نداء للعالم أجمع وليس فقط للشرق الأوسط:
الحرية ليست حقاً فحسب، بل مسؤولية أيضاً، لأنّ المرأة ليست كياناً فحسب؛ بل هي بداية، فبيديها بذرة الحياة الجديدة، وفي كلماتها ماؤها.
لم نعد وحدنا في مواجهة القتلة الطبقيين، فكل امرأة تكسر صمت الماضي، تبني المستقبل من أجل عالم تسوده المساواة والحرية.
وهذا العالم ليس للنساء فقط، بل هو للبشرية جمعاء.