خيوط النفوذ التركي في سوريا.. من المرتزقة الأجانب إلى التوابع السياسية
منذ بداية الأزمة السورية، عملت دولة الاحتلال التركي على نسج خيوط نفوذها داخل البلاد، من خلال استقدام آلاف المرتزقة الأجانب، وتشكيل مجموعات مسلحة مرتزقة موالية لها، ودعم شخصيات مدنية وسياسية تحوّلت إلى أدوات لتنفيذ سياساتها الإقليمية. وتستخدم أنقرة هذه الأدوات كأوراق ضغط فاعلة، تعيق من خلالها أي مساعٍ حقيقية لتسوية الصراع في سوريا، دون أن تسعى بالضرورة إلى فرض هيمنة كاملة، بل إلى بقاء الوضع في حالة من عدم الاستقرار يخدم مصالحها.

وصلت سوريا مؤخراً إلى مرحلة تم التحذير منها سابقاً، وهي مرحلة ذروة التنافس الإقليمي بين قوة ترى في نفسها أنها هي من تمكنت من إسقاط نظام الأسد. فمن جهة ترى دولة الاحتلال التركي بأنها وعبر دعمها للجماعات المسلحة والتنظيمات الإرهابية أسقطت النظام وسيطرت على سوريا، ومن جهة أخرى ترى إسرائيل بأنها عبر استهدافها لإيران وأدواتها على الأرض أسهمت بإضعاف النظام ومكنت هذه الجماعات المسلحة من السيطرة على البلاد.
وعلى الرغم من الاختلاف في الدوافع والأهداف، إلا أن الروايتين الأولى والثانية هما صحيحتان، ولولا الضربات الإسرائيلية المؤثرة على سوريا ولبنان وضعف المحور الإيراني لما تمكنت المجموعات المسلحة المدعومة من دولة الاحتلال التركي من الهجوم والسيطرة السريعة على المناطق السورية تباعاً.
صراع نفوذ إقليمي على الأرض السورية
هذا الحديث البديهي لم يمنع (إسرائيل ودولة الاحتلال التركي) من التنافس فيما بينهما على حصد نتائج ما حدث على الساحة السورية، فمن جهة تريد دولة الاحتلال التركي تكريس نفوذها وهيمنتها العسكرية من خلال إقامة قواعد عسكرية والعمل تحت غطاء تدريب ما يسمى بالجيش السوري الذي لم يبدأ العمل على تشكيله حتى الآن، ومن جهة ثانية ترى إسرائيل بأن الوجود التركي في هذه المناطق هو تهديد لنفوذها وقوتها على الأراضي السورية كما يمكن أن يؤدي ذلك لتقوية جماعات إسلامية متشددة لا يمكن الوثوق بها.
تحركات خبيثة منذ البداية
أن هذا التقييم يعد مدخلاً لتسليط الضوء على دور القوى الخارجية وخاصة دولة الاحتلال التركي في تعقيد الملف السوري واستمرار حالة الصراع والتوتر ما يعرقل جهود التسوية وتحقيق السلام في البلاد.
ومنذ بداية الأزمة السورية سعت دولة الاحتلال التركي للتدخل المباشر، ودعمت وصول الآلاف من المرتزقة الأجانب ما أدى لتقوية التنظيمات المتطرفة والإسلامية المتشددة وظهور مرتزقة داعش وتنظيم القاعدة في سوريا على حساب القوى الوطنية والديمقراطية، وأرسلت قواتها إلى الأراضي السورية واحتلت مناطق واسعة، ودعمت مجموعات مرتزقة موالية لها مثل ما يسمى الجيش الوطني.
سلطة جديدة... بوجه قديم
ونتيجة للدعم المكثف للقوى المتشددة تمكنت هذه القوى من تكريس نفوذها على الساحة السورية واستغلال الفرصة المناسبة والوصول إلى الحكم في البلاد، وعلى الرغم من أن سلطة دمشق تحاول أن تثبت للرأي العام المحلي والعالمي والقوى الدولية بأنها قادرة على التخلي عن سياستها المتشددة وتغيير سلوكياتها إلا أن وجود الآلاف من المرتزقة الأجانب الذين أدخلتهم دولة الاحتلال التركي إلى سوريا بالإضافة إلى وجود العديد من المجموعات التي تدعمهم دولة الاحتلال التركي بشكل مباشر يقلل من قدرة السلطة على إكمال سياساتها المرنة وهذا تبين من خلال الجرائم المرتكبة في الساحل السوري بالإضافة إلى عمليات التصفية والقتل والانتقام الفردي داخل المدن والقرى السورية.
الإيغور في المشهد السوري
واستعرضت مجلة "فورين بوليسي" الأميركية، في تقرير لها، أبعاد حضور الإيغور في المشهد السوري بعد مشاركتهم في الثورة وانخراطهم في السلطة، مشيرة إلى التخوفات الصينية من الأمر، وقالت: "على مدار العقد الماضي، وصل آلاف الإيغور إلى سوريا قادمين من الصين عبر دولة الاحتلال التركي، ويقول قادتهم في دمشق اليوم: إن عدد أفراد الجالية الإيغورية يبلغ نحو 15 ألفا، من بينهم 5 آلاف عنصر"، ويعيش معظمهم في مدينة إدلب، ويُعرفون بين السوريين باسم "التركستانيين"، وقد أسسوا مدارس ويديرون محطات وقود ومطاعم.
النموذج الليبي ماثل أمام السوريين
كما ذكرنا سابقاً بأنه حتى إذا رغبت سلطة دمشق بالانفتاح وتغيير سلوكياتها إلا أن وجود المرتزقة الأجانب والمجموعات المسلحة المرتزقة المدعومة من أنقرة بشكل مباشر سيكونون معرقلين لذلك وهذا ما حدث في الأزمة الليبية حيث لا يزال ملف المرتزقة والمقاتلين الأجانب والميليشيات المرتبطة بدولة الاحتلال التركي عالقاً دون حل وهذا ما يعرقل المساعي والجهود الدولية لإنهاء الأزمة الليبية وإطلاق العملية السياسية بشكل حقيقي.
بالإضافة إلى ذلك فإن وجود هؤلاء المرتزقة الأجانب المتشددين في بلد يقوم على التعددية الدينية والطائفية والقومية والعرقية كسوريا يهدد السلم الأهلي، وتبين تأثير وقوة المتشددين من خلال بعض التحركات المريبة في الأراضي السورية حيث تحدثت تقارير عن قيام ما تسمى بالحسبة بالتجول في الأحياء المسيحية داخل العاصمة السورية دمشق وفرض قيود على الأهالي كما أطلق بعض المجهولين دعوات متشددة خلال تجولهم في هذه الأحياء، وتم رصد بعض الحواجز لعناصر أجانب على أطراف دمشق يسألون الأهالي عن ديانتهم وطائفتهم.
تغلغل سياسي وعسكري تركي
وتسعى دولة الاحتلال التركي لاستغلال وجود المرتزقة الأجانب والمجموعات المختلفة كورقة ضغط على القوى الدولية التي تسعى لإنهاء الأزمة بالإضافة إلى الضغط على سلطة دمشق وتهديدها بالتمرد على قراراتها في حال عدم الرضوخ للسياسات التركية وحتى الآن ترفض هذه المجموعات تسليم أسلحتها لسلطة دمشق، كما أن دولة الاحتلال التركي تريد الاستمرار كقوة نافذة في سوريا من خلال هؤلاء باعتباء أنها هي الوحيدة التي تستطيع ضبطهم وتحجيم تحركاتهم.
لم تكتفي دولة الاحتلال التركي بملف المرتزقة الأجانب والمجموعات المختلفة، وإنما سعت لشرعنة وجودها وتحكمها بالمشهد السياسي السوري من خلال تشكيل لجنة قانونية عملت على صياغة الإعلان الدستوري والذي أقصى مختلف المكونات والقوى السياسية السورية الديمقراطية كما ينص على أسلمة الدولة السورية، ومن خلال النظر في طبيعة الشخصيات التي كانت ضمن هذه اللجنة بالإضافة إلى اللجنة التي أدارت ما يسمى بالحوار الوطني يتبين انعكاس النفوذ التركي العميق.
وبعد سقوط نظام الأسد في سوريا ووصول سلطة جديدة إلى دمشق، ونظراً للنفوذ التركي الذي تحقق على الأراضي السورية وقدرة أنقرة على ممارسة الضغوط على هذه السلطة، بدأت دولة الاحتلال التركي تتحدث عن اتفاقيات سياسية وعسكرية واقتصادية مبكرة مع هذه السلطة، على الرغم من أن البلاد لم تتجاوز المرحلة الانتقالية، وبالتالي فإن أي اتفاقية لا تعد شرعية ولا تستند إلى أي مواثيق قانونية.
وتسعى دولة الاحتلال التركي لإبرام اتفاقية مع دمشق بشأن ترسيم الحدود بالإضافة إلى أنها تسعى لإبرام اتفاقيات طويلة الأمد تسمح لها ببناء المزيد من القواعد العسكرية في العمق السوري بعد أن كانت قواعدها السابقة موجودة فقط في المناطق الحدودية، وهذا ما يزيد من قبضتها على الأوضاع السورية وقدرتها على ممارسة النفوذ والهيمنة، كما أنها تسعى للسيطرة على الجيش والقوى الأمنية بحجة تدريبهم، وهذا ما يهدد استقلال سوريا ومؤسساتها العسكرية الأمنية.
وضمن مساعي دولة الاحتلال التركي للهيمنة على سوريا أعلنت وزارة الدفاع التركيّة أنها بصدد تعيين مستشار عسكريّ للجيش السوريّ، وهذا يعني بأن التوجيه السياسي والعسكري لهذا الجيش سيكون من خلال الضباط الأتراك كما سيكون هناك تدريب الضباط السوريين من قبل دولة الاحتلال التركي وهذا ما ينشأ جيش عقائدي مرتبط بالدولة التركية على حساب العقيدة القتالية للدولة السورية ومصالحها كما إن إمداد الجيش السوريّ بأسلحةٍ ومعداتٍ عسكريّة تركيّة يعني أنّ الاعتماد التسليحيّ سيكون على أنقرة، وهو ما يضمن بقاء سوريا تحت الهيمنة التركيّة على المدى الطويل، كما أن مساعي إنشاء قاعدتين جويتين تركيتين في وسط سوريا، يمنح أنقرة القدرة على التحرك بحرية داخل الأراضي السوريّة، وتوجيه العمليات العسكريّة بما يخدم مصالحها.
استنتاج
عملت دولة الاحتلال التركي عبر استخباراتها على إنهاء القوى الوطنية والديمقراطية السورية منذ بداية الأزمة السورية وذلك من خلال استراتيجية تقوم على إغراق البلاد بالمرتزقة الأجانب بالإضافة إلى تشكيل مجموعات مرتزقة مرتبطة بها بشكل مباشر إلى جانب دعمها لشخصيات ذات طابع مدني وسياسي تحولوا إلى وكلاء وعملاء يساعدون دولة الاحتلال التركي في المحافظة على مصالحها وتطبيق سياساتها، وبالتالي ستواصل استخدام هذه الأوراق والأدوات لعرقلة أي جهود لتثبيت الاستقرار وستحاول من خلال ذلك التفرد بالهيمنة على سوريا.