مئة عام من النار والنداء.. من انتفاضة الشيخ سعيد إلى نداء القائد للسلام
بعد قرن من أول ثورة خاضها الكرد دفاعاً عن وجودهم وهويتهم، أطلق القائد عبد الله أوجلان نداء "السلام والمجتمع الديمقراطي" مادّاً يده للدولة التركية باسم الملايين من أبناء شعبه. فهل ستلتقط تركيا هذه اللحظة التاريخية؟ وهل يتحوّل الدم المسفوك إلى حبر يُكتب به دستور جديد يعترف بالكرد ويُنهي قرناً من الإنكار؟

مع نهاية الحرب العالمية الأولى (1914– 1918) وانهيار الإمبراطورية العثمانية، دخلت المنطقة مرحلة إعادة تشكيل كبرى. وقاد مصطفى كمال أتاتورك ما سُمي بـ "حرب التحرير الوطنية" عام 1919، التي انتهت بإعلان الجمهورية التركية في 29 تشرين الأول 1923. خلال هذه الفترة، انضم الكرد إلى الثورة على أن يحصلوا على حكم ذاتي في مناطقهم، بعد وعود مباشرة من أتاتورك نفسه. ولكن سرعان ما تبيّن أن تلك الوعود كانت تكتيكية، إذ لم تُنفّذ، بل قوبلت مطالب الكرد بالتجاهل والقمع.
وخلال هذه المرحلة المفصلية، اصطدمت آمال الكرد بتقاطع المصالح الاستعمارية الدولية، بدءاً من اتفاقية سايكس–بيكو (1916)، ومعاهدة سيفر (1920) التي ضمنت حقوق الكرد في بنودها 62–64، ثم اتفاقية القاهرة (1921)، وأخيراً معاهدة لوزان (1923) التي شطبت تلك الحقوق نهائياً مقابل مكاسب للحلفاء من الدولة التركية الوليدة. تم بذلك تقسيم كردستان بين أربع دول: تركيا، سوريا، العراق، إيران، ما أسس لجروح سياسية وهوياتية مفتوحة لا تزال تنزف حتى اليوم.
ثورة الشيخ سعيد بيران (1925): الذكرى المئوية لصرخة الحرية
في الذكرى المئوية الأولى لإعدام الشيخ سعيد بيران قائد أول انتفاضة، تعود الذاكرة إلى أولى أعظم الثورات الكردية المسلحة ضد الدولة التركية الحديثة. جاءت هذه الانتفاضة تتويجاً لتراكم الغضب الكردي إثر إلغاء معاهدة سيفر، وسحق أي تنظيم سياسي كردي ناشئ، أبرزها تنظيم الجنرال خالد بك جبري في أرزروم، الذي دعا للثورة وشكّل نواة مقاومة وطنية والذي عُرف باسم "منظمة آزادي".
وفي أعقاب اعتقال خالد بك جبري والنائب يوسف زيا في شهر كانون الثاني عام 1925، وإعدامهما في بدليس، اجتمع قادة الكرد في 1 شباط 1925، وذلك في جبل جاني وانتخبوا الشيخ سعيد بيران قائداً للثورة، لتنطلق الثورة فعلياً في 11 شباط، وتنجح في تحرير معظم مناطق شمال كردستان باستثناء مدينة آمد التي صمدت أمام حصار دام 50 يوماً.
ولكن الثورة تعرضت لطعنة غدر حين اعتقل قائد الانتفاضة وعدد من أعضاء اللجنة القيادية على جسر فارتو ليلاً على نهر الفرات، إثر خيانة مرشد القافلة المدعو قاسم (قاسو) عديل الشيخ سعيد وابن عم الجنرال خالد بك جبري، والتي كانت متوجهة إلى السليمانية للقاء بالشيخ محمود الحفيد في السليمانية، وكذلك بسمكو آغا شكاكي في شرق كردستان من أجل التنسيق وطلب المعونة.
وبمشاركة أكثر من 150 ألف جندي وخائن كردي من الجحوش، شنّت الدولة التركية حملات إبادة قاسية، أعدمت فيها أكثر من 22 ألف كردي، وهجّرت أكثر من 700 ألف آخرين، وأحرقت نحو 600 قرية كردية. كانت قرية آلاقمش وحدها شاهدة على مجزرة راح ضحيتها أكثر من 1400 مدني عام 1926، حيث استمرت هذه الأعمال البربرية حتى عام 1928.
وفي 29 حزيران 1925، أُعدم الشيخ سعيد مع 48 من القادة في ساحة بوابة الجبل بآمد، بعد أن خاطب رفاقه بكلمات ما زالت تلهب وجدان الكرد: "لن يموت شعبنا بموتنا... بل سيصل إلى الحياة الحرة والمستقلة ما دام بينه رجال شجعان أمثالكم".
استمرار الحراك: من آكري إلى ديرسم
لم تكن ثورة الشيخ سعيد نهاية المطاف، بل بداية لمسيرة طويلة من الانتفاضات المتواصلة. ففي عام 1927، قاد الجنرال إحسان نوري باشا ثورة آكري داغ (جمهورية آرارات) التي استمرت حتى 1930، قبل أن تسحقها الدولة التركية باستخدام طائرات فرنسية وبريطانية.
وفي 1937– 1938 اندلعت انتفاضة ديرسم بقيادة سيد رضا، وقُمعت بوحشية، مع مجازر جماعية بحق المدنيين. كما اصطدمت انتفاضات كوجكري ومهاباد وغيرها بالتواطؤ الدولي والصراعات الإقليمية، ما أدى إلى فشل متكرر في نيل الحقوق.
تأسيس حزب العمال الكردستاني (PKK): نضال جديد في وجه الإلغاء
وفي 27 تشرين الثاني 1978، وفي ظل انسداد الأفق السياسي للكرد في تركيا، تأسس حزب العمال الكردستاني بقيادة عبد الله أوجلان، متبنياً الكفاح المسلح اعتباراً من 15 آب 1984. سرعان ما تحول الحزب إلى قوة عسكرية وشعبية، وفرض نفسه كلاعب رئيس في القضية الكردية رغم قساوة الحرب مع الدولة التركية.
ورغم القتال، حافظ الحزب على قاعدة دعم واسعة في كردستان، وتمكّن من إيصال القضية الكردية إلى المحافل الدولية. وبعد اختطاف القائد عبد الله أوجلان في مؤامرة دولية عام 1999، بدأ الحزب بمراجعة شاملة لأفكاره واستراتيجياته.
نداء السلام والمجتمع الديمقراطي: فرصة تاريخية
وفي 27 شباط 2025، وجّه القائد عبد الله أوجلان من إمرالي "نداء السلام والمجتمع الديمقراطي"، داعياً إلى إنهاء العمل المسلح وفتح صفحة جديدة من النضال السياسي الديمقراطي.
وفي استجابة لهذه الدعوة، أعلن حزب العمال الكردستاني في مؤتمره الثاني عشر حلّ نفسه رسمياً، ووقف إطلاق النار من جانب واحد، مؤكداً أنه "نفّذ توجيهات القائد وفتح الطريق أمام تركيا لتدخل مرحلة جديدة عنوانها السلام والمواطنة المتساوية".
الكرد يمدّون يد السلام فهل تستجيب الدولة التركية؟
بعد قرن كامل من أول انتفاضة كردية مسلحة عام 1925، مدّ الكرد يدهم للسلام من جديد. لا يمكن أن يُبنى السلام الحقيقي على خطوات أحادية الجانب فقط. لقد اتخذ الكرد الخطوة الأهم، وتحولوا إلى تبنّي المسار الديمقراطي السلمي، لكن الكرة الآن في ملعب الدولة التركية.
هل ستتجاوب أنقرة مع هذه الفرصة التاريخية، وتدخل في مفاوضات حقيقية تُفضي إلى حل عادل يعترف بالهوية الكردية ويضمن الحقوق الثقافية واللغوية في الدستور؟ أم سيكون مصير هذه المبادرة كمصير سابقاتها، وآخرها مفاوضات السلام التي انطلقت عام 2013 وانسحبت منها تركيا عام 2015؟
من الموت إلى الحياة الحرة
لقد قدم الشعب الكردي أثماناً باهظة عبر مائة عام من المقاومة، من إعدامات 1925 إلى حرب الجبال الحديثة. لكن رغم القمع، لم تمت القضية الكردية، بل نضجت وتحوّلت. ويشكّل قرار حزب العمال الكردستاني بإنهاء الكفاح المسلح وتحول الكرد إلى العمل السياسي السلمي فرصة نادرة لتركيا كي تُعيد النظر في مقاربتها الأمنية، وتختار طريق الحل السياسي المستدام، المبني على الاعتراف بالشراكة القومية والعدالة.