تجاوزهم الموت العاديّ ليقضوا في طوابير البنزين
موت الفجأة أم موت الاحتكار لا فرق، إنَّه الموت جميعاً في لبنان. مات في جريمة قتل، مات في حادثة غرق، مات بعد معاناة من المرض... أمَّا في لبنان، فوصل الحال إلى أن يُسجَّل سبب الوفاة: مات في طوابير البنزين.

مرَّةً جديدة ترتفع ضريبة الحياة في البلد المنكوب، لتسجّل أعلى فاجعة منذ تدهور الأوضاع الاقتصادية. ضريبة باهظة دفعها المواطن عماد حويلي من قلبه المكلوم، بعدما قضت زوجته فاطمة قبيسي وبناتهما ليا وتيا وزهراء وآية، في حادث اصطدام مرّوع على أوتستراد السَّعديَّات باتّجاه العاصمة اللبنانيَّة بيروت الأسبوع الماضي.
توفت العائلة وهي في طريقها للبحث عن محطَّة بنزين للتزوّد بالوقود، بنيَّة التوجه إلى مطار رفيق الحريري الدّوليّ لاستقبال الأب عماد الحويلي بعد غيابٍ طويل. لكنَّ ما حدث كان على غير التوقعَّات، فاصطدمت السّيارة الَّتي تقل العائلة بطوابير السّيَّارات.
هكذا وبكلّ بساطة، وبدل أن يرجع حويلي وزوجته وبناته إلى البيت حيث ظنَّ أن شمل العائلة سيلتئم لأيَّام، يسير المواطن اللبناني خلف نعوش خمسة كان من المفترض أن يكون أصحابها إلى جانبه في علاجه من الملاريا، لكنَّ مرضاً جديداً أصابه لن يُشفى منه أبداً.
واقعٌ مريرٌ يعيشه اليوم عماد حويلي، ليس الأوَّل، وأخوف ما يخافه سكَّان لبنان ألَّا يكون الأخير. فتكرُّ السُّبحة على مآسٍ أخرى تنكأ جراح كلّ من يعيش على الأراضي اللبنانيَّة ويتجرَّع المرّ، لا ليعيش إنساناً كريماً كما حُقَّ له، وإنَّما ليعيش فقط بدون أن يتخطفه موت الذُل.
رواية شهود عيان
أحد شهود العيان روى لوكالتنا ما رآه قائلاً: "إن العائلة تفاجأت ومعها العديد من السيارات السالكين الأوتوستراد شمالاً، بسيارة تسلك عكس السير للوصول إلى محطة البنزين. حينها وقعت الكارثة، حيث تصادمت 5 سيارات ببعضها".
ولفت إلى أن "سيارة البيجو التي كانت تقل عائلة حويلي أصيبت بأضرار فادحة من الخلف قبل أن تصطدم بقوة بسيارة بيك أب".
وقد تحولت منطقة الحادث إلى أرض معركة حقيقية: جثث مرمية هنا وهناك، نداءات استغاثة من بعض الجرحى، سيارات الإسعاف ومسعفون يحاولون إسعاف بعض المصابين ونقل الضحايا إلى المستشفيات، وزحمة سير خانقة في المنطقة.
وأياً تكن الروايات، المؤكد أن هذه السنة، حُرمت آية من تقديم امتحاناتها ليس بسبب كورونا، إنّما جرّاء سوء الحكم في البلد وجشع الحكّام، ممّا أبعدها عن والدها في الدرجة الأولى، وبعدها تسبّب في مصرعها مع أحبائها، وكأنّ ليس من حقها أن تفرح في نجاحها. إلاّ أنّ ذكرى آية لازمت أصدقاءها الذين حافظوا على وجودها بينهم، إذ وضعوا صورتها محاطة في الورود، حيث كانت تجلس في الصّفّ تخليداً لذكراها.
منذ عامين.. ولبنان يقتل أبناءه
تحلُّ فاجعة عائلة حويلي لتستحضر وجوه الَّذين رحلوا في بلادهم بلا حسيبٍ ولا رقيبٍ. لم يموتوا بسبب تردّي الظّروف الاقتصاديَّة والاجتماعيَة، وإنَّما جراء تراجع قيمة الإنسان لصالح الطَّائفيَة والمذهبيَّة والحزبيَّة والمحاصصة والارتهان الخارجيّ.
منذ بدء الأزمة الاقتصاديَّة في لبنان، نهاية العام 2019، قضى عدد من اللبنانيين، إمَّا في حوادث سير جرَّاء قطع الطُّرقات احتجاجاً على أداء الحكومة، وغلاء المعيشة، وإمَّا في المواجهات بين المحتجّين والقوَّات الأمنيَّة، وإمَّا في حوادث فرديَّة مختلفة؛ تفاصيل لا يعرفها سوى أهالي الضَّحايا، تبقى وحدها شاهداً على تحوّل فكرة الوطن الآمن إلى قبر.
يحاول اللبنانيون تخليص أنفسهم من هذا اليأس، لكنَّ الأمر معقَّدٌ جدًّا فما من دلالات على انفراجةٍ قريبة. الفراغ المؤسّساتي لم يملؤه بعد أيّ شيء من احترامِ الدُّستور، والمحاصصة والحزبيَّة تتفوَّق على حوائج النَّاس ومقوّمات عيشهم. والمصائب، الواحدة تلو الأخرى لم تضع حدّاً بعد للتّدهور الحاصل. فمقتل عائلة حويلي في ظلّ الأزمة الإنسانيَّة المتواصلة لم تكن صافرة الانتهاء للمهزلة المستمرَّة، بل مرَّت مرور الكرام وعلى ما نام سكَّان لبنان استفاقوا عليه.
الجريمة مدويَّة والمجرمون فوق القانون
يشترك جميع المسؤولين اللّبنانّيين في المسؤولية تجاه ما يحصل في بلادهم. ويتحمَّل كلٌّ منهم وزر ما أصاب اللّبنانيّ من ضائقة ماديَّة حوَّلت حياته إلى جحيم. ولكن لا أحد منهم يقف على حدود مسؤوليَّاته.
حقيقةٌ صعبةٌ تسلّط الضّوء عليها فاجعة مصرع عائلة عماد حويلي، موتٌ يرقى إلى مستوى الجريمة، جريمةٌ حقيقيَّة وأخلاقيَّة تفضح حجم الدَّمار في المنظومة الإنسانيَّة على أرض لبنان وسط جوّ عامّ من انعدام العدالة.
دم عائلة حويلي في رقبة من؟ ما من مجيب، فالطَّبقة الحاكمة لا تنشغل بإحقاق الحقّ الآن كما لم تنشغل في ذلك مع ضحايا سقطوا قبلهم وللأسباب نفسها. ولن تنشغل أبداً لأنَّه كما يقول اللّبنانيّون "دود الخلّ منه وفيه" و"حاميها حراميها"... فما حدث مع هذه العائلة وما حدث قبل، وما يمكن أن يكون مستقبلاً، جميعه يشير بأصابع الاتّهام إلى الطَّبقة الحاكمة الغارقة في الفساد. هكذا إذًا الجريمة معروفة ومرتكبوها أيضاً سواء كانوا متسبّبين مباشرين أم لا، ومع هذا الكلّ حرٌ طليقٌ، وهذه واحدةٌ من عجائب لبنان الَّتي ستذهل عقول اللبنانيّين أكثر فأكثر، وربَّما تسوق أقدارهم إلى طوابير الموت.
طوابير الموت.. إلى أين؟
يحلم اللّبنانيّون، وجميع من يسكن الأراضي اللبنانيَّة من لاجئين فلسطينيين ونازحين سوريين وعاملين أجانب، بحياة آمنة. تكون الكرامة الإنسانيَّة فيها محقَّقة بكلّ أمان، بدون السَّير في غمار الموت للحصول على رغيف خبز أو ليتر من البنزين، أو استرجاع المدّخرات الماليَّة من البنوك على الوجه الكامل.
الحقُّ هذا، يتحوَّل إلى حلمٍ صعب المنال يوماً بعد يوم، وبما أنَّ التَّرجيحات والتَّحليلات تقدّر استمرار الحال في لبنان على ما هو عليه إلى وقتٍ غير معلوم، فإنَّ هذا يعني شيئاً واحداً: وهو أنَّ الموت ما يزال يتربّصّ بالنَّاس، وخاصَّةً البسطاء والفقراء الَّذين لا شيء يحميهم من فساد الطَّبقة الحاكمة ونتائج أعمالها.
أعمال كان آخرها تحويل الدَّعم عن أسعار المحروقات من الـ1500 ليرة لبنانية إلى 3900 ليرة لبنانية، ما يعني أنَّ سعر صفيحة البنزين قفز إلى حافَّة الـ60 ألف ليرة لبنانية دفعةً واحدةً. الطَّوابير ما زالت تمتد حتَّى اللّحظة، فيما تواصل أغلب المحطات غلق أبوابها بدعوى أنَّها لم تحصل على حصَّتها بعد، والحقيقة أنَّ شركات النَّفط لم توزّع بحجّة وجود خطأ في احتساب عناصر الأسعار، مشيرة إلى أنَّ سعر صفيحة البنزين سيتراوح بين 69 ألف ليرة لبنانية و73 ألف ليرة لبنانية.
من جهتها مديريّة النّفط قالت في بيان لها: "أن لا خطأ في التّسعيرة حسب الجدول المعتمد، لأنه قد تمّت دراسة جدول الأسعار وفق قرار رئاسة مجلس الوزراء لاعتماد سعر 3900 ليرة كسعر لصرف الدولار".
إذاً، لم تنتهِ الأزمة بعد، والاحتكار ما يزال سارياً بلا مساءلة، ما يعني أنَّ الطّوابير ستظلّ على امتداد كيلومترات من وضح النّهار إلى تفشّي الظّلام الدّامس، في سقطةٍ جديدةٍ تسجلها الطَّبقة الحاكمة، في دماء الأبرياء.
(ح)
ANHA