وراء كل انتحار قاتل: العنف النفسي سلاح خفي ضد النساء – آرين سويد

في كل خبرٍ عن انتحار امرأة، يقف المجتمع أمام الحادثة كأنها نهاية مغلقة، كأنها فصلٌ أُسدل ستاره بلا أسئلة. لكن الحقيقة التي يجب أن تُقال ولا بد أن تُقال هي أن كل انتحار امرأة، ليس موتاً فردياً، بل جريمة لها قاتل. هذا القاتل قد لا يحمل سكيناً أو يطلق رصاصاً، لكنه يطعن كل يوم بكلمة، بنظرة، بصمت متواطئ، أو بعادة تورّثها الأجيال كما تورّث الأسماء.
العنف النفسي الذي تتعرض له النساء، هو الأكثر خبثاً، والأقل ظهوراً، لكنه الأشد فتكاً. لا يُرى في صور الكدمات، ولا يُوثّق في تقارير الطب الشرعي، لكنه يحفر في النفس حتى يُسقطها في العدم. هو ليس مجرد خلافات منزلية، ولا "ضغوطاً نفسية" كما يحب البعض أن يهوّن. هو تراكم يومي من الإلغاء، من الصراخ الذي لا يُسمع، من الغضب الذي يُمنع، من الحضور الذي يُقصى، ومن كرامة تُسحق تحت أقدام ما يُسمى "العادات" و"العيب" و"الواجب".
لأن كل مرة تُقدم فيها امرأة على الانتحار، لا يجب أن يُغلق الملف بكلمة "ضحية". بل يُفتح بالسؤال: من هو القاتل؟ أكان شخصاً؟ عادة؟ تربية؟ صمتاً اجتماعياً؟ ديناً؟
تردّدنا في الحديث عن هذه القضايا كإعلام نسوي. خوفاً من أن يُساء فهمنا، من أن يُقال إننا نبالغ، أو نكسر "الصورة العامة". كنا نسأل أنفسنا: كيف سيُفهم الكلام؟ وماذا سيقول الناس؟ لكن ربما صار الوقت لنضع الإصبع على الجرح، ونكون صريحين. أن نفهم الأسباب، لا لنتأملها من بعيد، بل لنواجهها، ونبحث عنها بعمق، كي نعرف كيف نداويها.
العنف النفسي لا يترك آثاراً زرقاء على الجلد، بل ندوباً لا تُرى، تنخر الداخل بصمت. تُراكمه النساء يوماً بعد يوم، كلمة بعد كلمة، نظرة بعد نظرة، حتى تسقط إحداهن في النهاية، فيقال ببساطة: "لم تحتمل".
لكن من الذي علّمها أن الصمت هو النجاة؟ من الذي أخبرها أن الغضب عيب، وأن الألم ضعف، وأن الصبر فضيلة حتى لو قتلها؟ من قال لها إن الخضوع نجاة، وإن التحمّل بطولة؟
علينا أن نعيد تعريف القاتل. ليس فقط من يسلب الحياة بسلاح، بل من يدفع امرأة إلى حافة الانهيار ثم يقول: "انتحرت".
في شمال وشرق سوريا، تقف النساء في الصفوف الأمامية لمقاومة كل هذا. وهناك حاجة اليوم، أكثر من أي وقت مضى، لتضافر الجهود بين الحركات النسوية، والإعلام النسوي والمؤسسات الحقوقية، والتنظيمات المجتمعية، من أجل تفكيك هذا العنف الخفي، وكشف أركانه، ومحاسبة من يغذّيه ويسكت عنه. لأن إسكات النساء هو ما يصنع الجريمة. أما حين تتحدث النساء، حين يكتبن، حين ينظمن، حين يُمسكن بالكلمة وبالموقف، تبدأ الحقيقة بالظهور.
الإعلام النسوي، الذي يحمل راية الحقيقة والكرامة، نحن مدعوات اليوم للذهاب أبعد من التغطية، ليلامس جذور الألم.
لست هنا لشرعنة الضعف، ولا لأجمّل الانكسار. أنا فقط أريد ان أقول بوضوح: ما يحدث ليس قدراً. وما تتعرض له النساء من قهر نفسي ليس "طبيعة الحياة". هو عنف. هو جريمة. ووراءه قاتل يجب أن يُسمّى، ويُواجه، ويُحاسب.
الوقت ليس للسكوت. الوقت للبحث عن القاتل، مهما كان اسمه، شكله، مكانه. وفضحه. ثم بناء واقع جديد، لا تُدفن فيه النساء وهنّ أحياء.
هذا المقال ليس مرثية. بل إنذار. دعوة للوعي، للغضب المنظّم، للتضامن الحقيقي. حتى لا نرى المزيد من النساء يُغادرن في صمت. وحتى لا يُقال بعد اليوم "انتحرت" دون أن يُسأل: من قتلها؟