تعلّم وعلّم اللغة الكردية متحدياً سياسات الإنكار والصهر
في ظل سياسات القمع الممنهجة التي استهدفت الشعب الكردي وجودياً وثقافياً، ظهر أشخاص خلق التناقض بين الإنكار والتهميش والحياة اليومية دافعاً لهم لتعلم اللغة الكردية. من هؤلاء، محمد عبدي سيف الدين، الذي حاول، رغم كل التحديات، أن يكون جزءاً ممن تعلّموا وعلّموا لغتهم الأم.

في قرية صغيرة هادئة تدعى نبي سادي، تقع في الريف الشمالي لمدينة جل آغا بمقاطعة الجزيرة في إقليم شمال وشرق سوريا، ولد محمد عبدي سيف الدين عام 1965، في بيئة كانت تحاول أن تتنفس الكردية رغم سياسات الخنق والإنكار.
البذرة الأولى
كان والد محمد من الشخصيات الريفية البسيطة، لكنه حمل في داخله ثورة صامتة تعلّم اللغة الكردية في زمن كانت الحروف الكردية تعد "جريمة"، حيث التقى بالشاعر الكردي المعروف جكر خوين وتعلّم منه الأبجدية والشعر والروح القومية، جلسات الأب مع أبناء القرية كانت سرية لكنها مليئة بالحياة كان يقرأ دواوين الشعر باللغة الكردية، ويتحدث عن أهمية الحفاظ على اللغة كنوع من المقاومة ضد سياسات الإنكار.
محمد، وفي عمره الصغير، كان يراقب والده بحب وفضول، كان يراه يقرأ دواوين جكر خوين، سأل نفسه بعد ما عاشه من تناقض حول لغته الكردية:
"لماذا لا ندرس لغتنا في المدرسة؟ لماذا أُجبر على تعلم لغة لا أتحدثها في بيتي؟"
أسئلته لم تذهب سدى، بل كانت البذرة التي نمَت في داخله وحرّكته نحو عمل طويل لتعلم وتعليم اللغة الكردية
من التعلم في الظل إلى التعليم في السر
مع دخول محمد المرحلة الثانوية في مدينة قامشلو حيث انتقل للدراسة هناك عام 1987، ازداد وعيه، وانضمّ إلى مجموعات تابعة للحزب الديمقراطي التقدمي الكردي. كان أحد شروط العضوية هو إتقان اللغة الكردية، كتابة وقراءة وهكذا بدأ محمد يتعلم الأبجدية الكردية بشكل ممنهج، وكان يقرأ مجلة Gulistan(كلستان) التي أطلقها جكر خوين، والتي أصبحت دليله نحو التمكن من لغته الأم.
في عام 1988، بدأ محمد بتنظيم حلقات تعليم سرية في قريته والقرى المجاورة لم يكن لديه صفوف أو سبورة، كانت البيوت الصغيرة تتحوّل إلى فصول سرية، يجتمعون فيها لتعلم الحروف والنصوص الكردية. حرص محمد على أن تكون كل مجموعة صغيرة (لا تتجاوز 10 أشخاص)، لضمان السرية والأمان.
خلال سنوات، علّم محمد العشرات، والذين بدورهم علّموا غيرهم وهكذا كان يجري التعليم بالسلسلة، الذي حافظ على اللغة الكردية حية في وجه الطمس الممنهج.
بعد الثورة... الحلم يتحقق
مع انطلاق ثورة 19 تموز، تحقق حلم محمد والعديد من الآخرين، فأصبحت اللغة الكردية تُدرّس في المدارس والجامعات بلا خوف، بلا همس. لم يتوقف محمد، بل وسع نشاطه وأشرف على دورات تعليمية رسمية، تخرّج منها أكثر من 400 شخص في مدينة جل آغا وحدها.
اليوم، يعمل محمد في متجر للأدوات الكهربائية، لكنه لا يزال "معلماً" في قلبه. في المساء، وبعد انتهاء عمله، يواصل جهوده في تنظيم دورات لتعليم الكردية. العديد من تلامذته أصبحوا مدرسين في مدارس شمال وشرق سوريا، حاملين الشعلة التي أضاءها منذ الثمانينات.
"جهدنا لم يذهب سدى"
يقول محمد في حديثه لوكالتنا: أشعر بفخر عظيم حلمنا اليوم أصبح واقعاً نرى أبناءنا يتعلمون لغتهم الأم من دون قيود. الجهد الذي بذلناه لم يذهب سدى، كل حرف علمناه هو لبنة في بناء هذا المستقبل".
ويختتم: "لغتنا هي وجودنا، وحمايتها واجب كل كردي لا زال هناك من يسعى لإبادتنا ثقافياً، وكلما تمسّكنا بلغتنا، أفشلنا هذه المخططات".
(سـ)