الإدارة الذاتية التي تعاني من الحرب والحصار هي الوحيدة التي تطرح مشروعاً ديمقراطياً سورياً – غياث نعيسة
وضع النظام العالمي كما كنا نعرفه في حالة اضطراب كبير: الدول المهيمنة عليه، وعلى رأسها الولايات المتحدة، تسعى بكل جهدها للحفاظ على هيمنتها ومنع ظهور دول أخرى يمكن أن تضاهيها أو تشاركها الهيمنة العالمية، مثل الصين على الصعيد الاقتصادي وروسيا على الصعيد الجيواستراتيجي. الحرب الدموية في أوكرانيا تعد مثالاً بارزاً على الصراع بالوكالة بين هذه الدول الكبرى؛ حيث تسعى بعض الدول إلى بناء نظام متعدد الأقطاب، بينما تفضل أخرى الحفاظ على هيمنة أحادية القطب.
هذه الأزمة للنظام العالمي تنعكس إقليمياً بأزمة للنظام الاقليمي في منطقتنا. والسمة الأبرز لها هي حرب الإبادة الدموية التي تشنها إسرائيل بحق الشعب الفلسطيني والمشاركة الإيرانية واللبنانية واليمنية فيها. تخلخل النظام الاقليمي نتيجتها هو ما يدفع بمحاولة دول المنطقة على إعادة تموضعها ورسم سياسات تتوافق مع الحفاظ على مصالحها أو حتى تعزيز تلك المصالح.
وفي هذا الإطار يمكن قراءة؛ من وجهة نظري؛ مسار التطبيع بين النظامين التركي والسوري: نلاحظ أن الوضع في سوريا صعب للغاية، حيث البلد مقسم وتحتلها جيوش عديدة، وأبرزها الاحتلال التركي، والشعب السوري يعاني من ويلات الحرب وصعوبة الحياة اليومية وإنهاك لقواه بعد أكثر من عقد من الزمن على ثورته التي هزمت بالدم لصالح قوى الثورة المضادة المتعددة الأطراف، وفشل المعارضة الليبرالية المرتهنة التي تم تسويقها من دول إقليمية، ولكنها تفتتت وتقارب الاندثار تنظيمياً رغم محاولاتها بعث الروح في نفسها مجدداً بدعوات لمؤتمرات "توحيدية".
ويقابله نهوض بطيء ولكنه جدي للمعارضة اليسارية والديمقراطية الجذرية. وعلى أرض الواقع فإن الجغرافيا السورية المقسمة اقتصادياً وعسكرياً واجتماعياً وإلى حد كبير سياسياً، تتوزع على ثلاثة مناطق: في مقابل مناطق تحتلها تركيا مع مرتزقتها. نجد مناطق سيطرة النظام؛ التي يحاول فيها النظام الضعيف تحسين أداء مؤسساته لضمان ديمومته. وأيضاً الإدارة الذاتية التي تعاني من الحرب والحصار عليها وظروف حياة تزداد صعوبة للناس، ولكنها هي الوحيدة التي تطرح مشروعاً ديمقراطياً سورياً. ما يجعل منها الضامن الأساسي لإمكانية تحقيق مستقبل أفضل للسوريين والخروج من هذا الوضع الكارثي لبلادنا. بشرط أن تطرح بوضوح سياسات تخدم السوريين، كل السوريين، ومصالحهم العامة.
والحال، فان وضع سياسات واستراتيجيات عمل وطني تتطلب منا تحليلاً ملموساً للواقع. وباعتقادنا فإن ما يطرحه الواقع السوري علينا كمهام وسياسات في هذه المرحلة- وإن كنت سأكرر ما سبق أن قلته مراراً منذ سنوات- يقع على عاتق الإدارة الذاتية حملها بالاشتراك مع حلفائها من القوى اليسارية والديمقراطية الجذرية السورية: الدعوة للسلام ووقف الحرب وحل القضايا الإنسانية (المعتقلين والمخطوفين والنازحين واللاجئين..)، العمل على إعادة توحيد سوريا من خلال مسار للانتقال الديمقراطي يسمح ببناء نظام ديمقراطي لامركزي، إخراج المحتلين واستعادة الشعب السوري لسيادته على كامل أراضيه وثرواته، وتطبيق سياسات عدالة اجتماعية.
وهذا المسار قد يكون الوحيد القادر، حال تحقيقه، إلى التوصل الى حل سياسي بأيادي سورية ولصالح الشعب السوري كله. حينذاك يكون للتطبيع مع تركيا مغزى آخر مقبول غير ما هو عليه الآن بين النظامين التركي والسوري؛ لأن استمرار مسار التطبيع بينهما اليوم إنما هو على النقيض من الأهداف المذكورة، وعلى النقيض من مصالح الشعب السوري في وحدته وحريته واستقلاله، بل إن هذا المسار التطبيعي بين نظامين مأزومين سيؤدي الى مزيد من الحروب والخراب والآلام للسوريين؛ لأنه بالضرورة سيكون على حساب ملايين من السوريين.
ولمواجهة مخاطر هذا السيناريو السيء للشعب السوري، علينا تنشيط مبادرة الإدارة الذاتية التي طرحتها في نيسان من العام الفائت وتحديثها، حيث إن هذه المبادرة، مع تعديلها بتوسعتها، تفتح باباً واسعا للتفاوض بين الإدارة الذاتية، بدعم من حلفائها من الأحزاب السياسية اليسارية والديمقراطية، مع النظام السوري على أسس الأهداف المذكورة أعلاه. لتشكل بوابة لحل سياسي سوري- سوري يخرج الشعب والبلاد من الوضع الكارثي الراهن، ويبعد عنه تأثيرات تنافس ومطامع الدول الإقليمية والدولية.
بالتأكيد إن ذلك يتطلب برأينا؛ سياسة وخطاباً واضحين وثابتين من الإدارة الذاتية في هذا الخصوص. كما نعتقد بأن النظام السوري المعروف بتعنّته تجاه أي إصلاحات وحلول ديمقراطية ووطنية سيراوغ في تجاوبه مع الدعوة للتفاوض على الأسس المعلنة؛ لذا فالحاجة ملحّة للضغط الشعبي، الذي يقع عبئه الاكبر على الأحزاب اليسارية والديمقراطية الجدية، لكون الجماهير السورية المنظمة والمحتشدة لتحقيق الأهداف المذكورة أعلاه، ولا سيما في مناطق سيطرة النظام، دور مهم في منع تأثيرات ومفاعيل تدخلات الدول الكبرى والإقليمية السلبية في الوضع السوري، كما أن هكذا حراك شعبي وطني سيضع نظام الطغمة في مواجهة الجماهير أمام خيارين؛ إما السير في مسار تفاوضي مع الإدارة الذاتية وحلفائها من الأحزاب اليسارية والديمقراطية، مما يضع البلاد على طريق التغيير الديمقراطي المستقل، أو التسبب في الانهيار.