فوضى الشرق الأوسط والحلول المحتملة من منظور القائد عبد الله أوجلان

فوضى الشرق الأوسط والحلول المحتملة من منظور القائد عبد الله أوجلان
الجمعة 25 حزيران, 2021   20:37

الدولة في الشرق الأوسط -2

بدأت هذه المرحلة، التي زُعم أنها مرحلة الإصلاح، بالتساقط شَعرة شعرة تجاه الأزمة والفوضى العامة للعولمة الرأسمالية الإمبريالية، والمتسارعة في وتيرتها مع انهيار الاشتراكية المشيدة في أعوام التسعينات، وبات من الصعب على إمبراطورية الفوضى الأمريكية السير مع هذه البنى. فهذا يخالف منطق نظامها القائم، وبينما أخذت من ربح النظام وأمنه أساسًا لها، وراحت الدولة الشرق أوسطية تُقحِم الآليتَين معًا في مرحلة ديناميتية في ضوء الأوضاع المستجدة. فالدولة الشرق أوسطية تعني الاضطراب والانفلات الأمني، والهدر الذي لا جدوى منه، علاوة على أن انقطاعها عن الحشود الغفيرة من الشعب أدى إلى تفاقم الانفلات الأمني والهدر، ليصل أبعادًا لا تطاق. ومن العصيب حقًّا على الاستبدادية القائمة بحديقتها المرقَّعة وبشكلها المطلي هذا، أن تشكل الجواب المرتقب لمطاليب الشعوب المتخبطة في مشاكلها المتكدسة منذ أيام العهد النيوليتي. تضغط هذه الشعوب على تلك الاستبدادية من الأسفل، في حين تضغط الرأسمالية العالمية عليها من الأعلى، ومن الصعب عليها الرد على كليهما.

تقمصت الدولة الشرق أوسطية المنكمشة على ذاتها والغاصّة في تزمتها تجاه المجتمع داخليًّا والغرب خارجيًّا، الغطاء القوموي في القرن العشرين لتقود إلى تفاقم المشاكل وتثاقلها أكثر فأكثر، وبينما استحدثت نفسها بالنزعة القوموية، وببعض الإصلاحات المحدودة، مع حظيها بدعم حفنة ضئيلة من الدول الأخرى؛ فقد أسفر التعصب والتحجر السائد في المجتمع إلى ظهور ذهنية مغفلة وشاحبة متخلفة، ومريضة، وكأنها تحيا خارج دائرة الزمان والمكان، وبينما افتقدت التقاليد والأعراف قدسيتها كليًّا، لم تَقُم العصرية سوى بتكوين شريحة عميلة ملتفة حول الدولة. ولم تتحطم الدولة الشرق أوسطية كليًّا؛ بل تجاوبت مع مؤسسة العمالة المنتَظَر انبثاقها من سماتها الموجودة، والغرب بدوره لم يشأ أن تنهار تمامًا، لِما في ذلك من منفعة كافية له على المدى القصير. هكذا ساعد على إطالة عمر المونارشيتين العثمانية والإيرانية قرنين من الزمن، عبر التوازنات الخاصة؛ على الرغم من أنه لو تركهما وشأنهما، لانهارتا تلقائيًّا آنذاك. هذا وكانت "الرأسمالية الكومبرادورية" التي طورها النظام الرأسمالي (المهيمن في الغرب) على الصعيد العالمي، تشكِّل الأرضية الاقتصادية المثلى لهذه العمالة. لكن، دعك من حل مشاكل المجتمع، لم تكن ثمة رغبة آنذاك حتى في رؤية أي مشكلة منها، وكأنه ساد شكل عصري لدولة المَلك الإله؛ فالقوة العسكرية التقنية المأخوذة من الغرب، كانت كطَوق النجاة بالنسبة للدولة الشرق أوسطية، حيث كان بمقدورها الصمود تجاه مجتمعها بسهولة أكبر عبرها، وبحظيها بمؤازرة أسيادها من الخلف، لم يكن صعبًا على جناح السلطة القتالية أن يُطيل من عمره؛ بل وبصقلها نفسها بأدوات النظام الرأسمالي الاحتياطية (مذاهب الاشتراكية المشيدة، الديمقراطية الاجتماعية، والتحرر الوطني)، كانت تَعتَبِر نفسها في ضمان أكبر.

غرضنا من تعريف الدولة في الحضارة الشرق أوسطية هو إلقاء الضوء على يومنا الحاضر، ومقابل نشوء الدولة وتكونها في الحضارة الغربية بالارتباط بمنطقة الشرق الأوسط من حيث الجذور، إلا أنها فصلت نفسها عنها وتمايزت مع الزمن، وانتقل هذا التمايز المبتدئ مع الدولة في عهد أثينا وإسبارطة، إلى روما أيضًا عبر الهيلينية، واستمر معتقد المَلك الإله فيها مع افتقاده قواه وتأثيره بنسبة ملحوظة، ليكتمل التمايز والانفكاك مع قبول قسطنطين الديانةَ المسيحية واعترافه بها. إن معتقد "دولة الإله" المعمِّر ألف سنة، ليس إلا امتدادًا لكلمة "يوم الحشر" القديمة في منطقة الشرق الأوسط، لكنها أكثر دنيوية قياسًا بشكلها الشرق أوسطي، حيث لم يتحقق توطد قدسية الدولة تمامًا. فعندما انهارت الإمبراطورية الرومانية تحت الضربات القاضية للأقوام البدوية، فقدت حُرمتها ومكانتها أيضًا، وكذلك لعبت الأنساب الجرمانية أدوارًا مهمة في كشف النقاب عن الوجه الدنيوي للدولة، باعتبار أن هذه الأنساب لم تشهد الدولة كثيرًا، وعلى الرغم من مساعيهم في إحياء وإنعاش الدولة، التي ورثوها عن الإمبراطورية الرومانية، تحت اسم الإمبراطورية الجرمانية الرومانية المقدسة؛ إلا أن الدويلات المدينية والمَلَكيات المونارشية قد جُرِّدت من حصانتها الإلهية جيدًا، وبرزت الكيانات السياسية الديمقراطية والوطنية للشعوب والأوطان إلى الميدان، لدى الشروع في إدراك ماهية الدولة، وقطعت الثورات الإنكليزية والأمريكية والفرنسية أشواطًا بارزة في سيادة النوعية العلمانية على الدولة. كما أدى وضع الحدود والضوابط عبر الدساتير إلى دفن الدولة الاستبدادية بين طيات التاريخ.

أما في منطقة الشرق الأوسط، وكما أن مثل هذه التغيّرات لم تحصل في تقاليد الدولة، فقد ولجت مرحلة أكثر تزمتًا وتخلفًا، وما قامت به الدولتان العثمانية والإيرانية، لم يكن سوى إدامة وجودهما مدة أطول عبر الآليات الدفاعية الأخيرة التي بحوزتهما، تجاه الدول الغربية المتصاعدة، وبينما كانت الدولة الشرق أوسطية تتشتت وتتبعثر، لم تكن استعمارية الدولة الغربية قد ترسخت بعد، ويُعبِّر القرنان التاسع عشر والعشرون عن مرحلة الأزمة بالنسبة للشرق الأوسط. حيث برزت خلالهما كيانات سياسية يمكن وصفها بشبه الاستعمار الحديث، حيث اتصفت ببعض الجوانب التي تميزها عن غيرها من الساحات في العالم، والتعريف التاريخي الوجيز كافٍ لتسليط الضوء على هذه الفروقات.

نخص بالذكر هنا المقاومة القصوى للعلاقة الكامنة بين الدولة والمجتمع، إزاء التغيير والتجديد، والتي لم تسمح بظهور انطلاقات قصيرة المدى للنفاذ من الأزمة، ومن جانب آخر، فلا الشروط المساعدة على الهضم السريع لأشكال الدولة الرأسمالية موجودة، ولا إمكانية التفكيك السريع لتقاليد المنطقة موجودة. فالتقاليد الاجتماعية لا تحتوي الديناميكيات الخلاقة المتجاوبة مع كلا التطورين المحتملين، أو بالأحرى، تسمَّرت قوة التقاليد والأعراف في الأرضية الاجتماعية منذ العهد النيوليتي، لدرجة لا يمكنها أن تصحو أو تلملم أشلاءها بهذه السهولة. أما مساعي الشريحة العليا، والتي لم تتخطَّ إطار التواطؤ، فهي بعيدة كل البعد عن جعل تلك المساعي ملكًا للمجتمع، وعن القدرة على حلها. هذا ولا يمكن تطبيق الشكل الأمريكي، ولا الشكل الياباني الباسيفيكي على هذه الأرضية، بغرض ولوج درب التطور والتقدم على الطراز الغربي.

ليست القوالب الإسلامية فقط هي العائق هنا؛ بل إن القيم الحضارية برمتها تقاوم وتتحدى. حيث ثمة تعقيد وتشابك كثيف فيها، بدءًا من قيم المجتمع النيوليتي وحتى القيم العبودية السومرية والمصرية، ومن القيم الإسلامية إلى القيم الإثنية الوافرة الغنى. لا تقبل الحضارة الشرق أوسطية اللقاح الغريب بسهولة من أجل التحوّل، وهي بذلك أشبه بالشجرة العجوز التي لا تحتمل التطعيم. ومن أجل التجديد، إما أن تقوم بقلب الشجرة القديمة واقتلاعها من جذورها، أو أن تعثر على نوع جديد من اللقاح، لكن الخيارين غير ممكنين. لقد حاولَت الجونتا التركية وتركيا الكمالية تجريب التلقيح الأول في أعوام 1900. لكنه كان مثل لقاح الاشتراكية المشيدة الفاشل. إذ لم يفلح اللقاح الغربي المُنَقَّع جيدًا بماء النعرات القوموية في إعطاء النتيجة، رغم مرور ثمانين عامًا عليه. أما الشاهنشاهية (المَلَكية) الإيرانية والأفغانية، فلم تنجُ من الانهيار السريع عندما برزت بسيماء الحداثة. في حين أن القوموية العربية تحتضر، والحالة التي شهدتها في العراق تبرهن على مدى الصعوبة الملاقاة، حتى في رفع جثتها، تشهد النزعة القوموية الصهيونية الإسرائيلية أيضًا حالة مشابهة. حيث حوَّلت المشكلة الإسرائيلية – الفلسطينية إلى وحشية بكل معنى الكلمة. أما التشبث بالإسلام الراديكالي والحديث، فلا معنى له سوى كونه تهيُّجات وميول انتحارية ناجمة عن الخيبة واليأس تجاه الحملة العالمية الكبرى للرأسمالية، ومن المحال أن تسفر عن إبراز قوة أو حلول أخرى مغايرة.

إن سردًا تاريخيًّا مختصرًا للمصطلحات الأساسية يكفي للإشارة إلى أن ظاهرة الدولة تتخفى في أساس كافة المشاكل القائمة في الشرق الأوسط. لقد خاضت الحضارة الغربية صراعات مريرة في سبيل فك لغز الدولة ذات الأصول الشرق أوسطية، وقد أسدلت النهضة بجانب من جوانبها الستار الأيديولوجي عن الدولة، ومزّقت الدروع الميثولوجية الدينية عبر الثورة الذهنية؛ فحققت بالتالي إمكانية تعرية الحقيقة وإبرازها للعيان. أما الإصلاح، فقد حطم حصانة وتكامل أيديولوجية الدولة الإلهية ذاتها وبيروقراطيتها، التي كانت الكنيسة تحميها وتدافع عنها، وأزال من الوجود سلطنة الخوف المسلَّطة على المجتمع، فمهَّد السبيل بذلك ليعبّر كل واحد عن معتقداته بحرية. أما في منطقة الشرق الأوسط، فخلافًا لذلك، تم تهميش المعتزلة وأصحاب المفاهيم المشابهة، والقضاء عليهم.

وساعد انهيار السلطنة الدينية في الغرب على تسريع ظهور حرية الفكر والعقيدة، ووسَّعت مرحلة التنوير آفاقَ التطورات، ونقلتها بين صفوف الجماهير، وبينما عملت الاتجاهات الثلاثة على تحطيم وتمزيق دروع الحصانة المحيطة بالدولة موضوعيًّا، فقد فتحت الطريق أمام بروز القوة الديمقراطية للمجتمع.

 هكذا قامت الثورات الإنكليزية والأمريكية والفرنسية بدك دعائم الدولة الكلاسيكية، لتقود إلى تحديثها على الصعيدين الأيديولوجي والبيروقراطي، وحَدَّت من نطاقها بالدساتير وحقوق الإنسان، لتُسَرِّع من بروز مبادرة القوى الاجتماعية. هكذا حصلت التطورات الحضارية العظمى في القرنين التاسع عشر والعشرين.

أما في منطقة الشرق الأوسط، فاتجهت المرحلة في اتجاه معاكس في هذين القرنين. حيث ساد نفوذ كلي لقوى جناح السلطة القتالية بعد جهود مروِّعة ومريرة، لتنهب وتسلب المجتمع منذ البداية، وبأسوأ الأشكال، تحت ذريعة ضرورة وجود الدولة من أجل منفعة "المجتمع" العامة والأمنية، والتصقت الدولة المستبدة كليًّا بظهر المجتمع، كما تلتصق حشرة القُرّادة بظهر الشاة، وما الفترة اللاحقة للقرن الخامس عشر، سوى تعبير عن القصة المأساوية لهذه المرحلة.

ANHA