تركيا في إدلب .. إقامة مؤقتة
د . مهيب صالحة
أحجية إدلب، لا أحد من أطراف الصراع في سورية يمتلك بمفرده شيفرتها . فإدلب محافظة الزيتون الشمالية الغربية يتجمع فيها عشرات آلاف المقاتلين من المعارضة الإسلامية المسلحة ومثلهم من هيئة تحرير الشام ـ جبهة النصرة سابقاً التابعة لتنظيم القاعدة ـ ومئات آلاف المدنيين الذين هجروا إليها من مناطق مختلفة في سورية وأكثر من مليوني نسمة من سكانها الأصليين ، وتتجمع فيها أيضاً تناقضات كل الدول المؤثرة في المسألة السورية والدول الطامحة ليكون لها تأثير بين مشارف نهاية الحرب ومشارف بداية الاستثمار السياسي والاقتصادي .
كلا الطرفين ، الحكومة والمعارضة الإسلامية المسلحة ، يرفعان سقف توقعاتهما من معركة إدلب المحتملة ، ويصعدان اللهجة الإعلامية ضد بعضهما البعض استباقاً لصدور قرار الحرب الذي يطبخ على نار تجاذبات المصالح الدولية . لقد حملت زيارة وزير الدفاع الإيراني لسورية عبر مطار حلب الدولي بغياب المراسم السورية عدة رسائل باتجاهات مختلفة . الرسالة الأولى مزدوجة ، لدمشق تذكرها بأن ثمن إنهاء دورها في سورية أو إضعافه تدفعه حكومتها ، وأن مشاركتها في الحرب ضد المعارضة الإسلامية المسلحة في إدلب مرهون ببقاء هذا الدور ، تلقفت دمشق الرسالة ووقعت مع طهران على اتفاق إعادة تأهيل جيشها وتسليحه . ولتل أبيب تذكرها أن إيران باقية في سورية بالحجم الذي تريده بالاتفاق مع حكومة دمشق ووجودها مرتبط بالمفاوضات المحتملة مع الولايات المتحدة الأمريكية على سلة القضايا المتنازع عليها بين البلدين ، تلقفت تل أبيب الرسالة وردت برسالة مزدوجة إلى دمشق بأنها تهتم في سورية فقط بأمنها وهي غير ملتزمة بأية اتفاقات قبل نهاية الحرب فيها بمعنى أنها ملتزمة فقط باتفاقية فك الاشتباك لعام ١٩٧٤ . وإلى طهران بأن أية اتفاقات بينها وبين دمشق تعزز تواجدها في سورية لن تعترف بها وستعمل كل ما بوسعها لضرب الوجود العسكري الإيراني فيها . والرسالة الثانية لروسيا وتركيا بأنها ستسهل أي اتفاق سياسي بينهما يجنب إدلب ومنطقة غرب الفرات كلها دفع تكاليف باهظة لحرب تريح المشروع الأمريكي في شرق الفرات ، وفي الحد الأدنى إذا اتفقتا على شكل ما وخاصة عمل عسكري لإخراج جبهة النصرة من معادلة إدلب فإنها ستدعم هذا الشكل مقابل دعمهما بقائها في سورية وفي أية مفاوضات محتملة مع الولايات المتحدة الأمريكية .
تعتقد تركيا أن وجودها العسكري في محافظة إدلب يكسبها جبهة عسكرية واسعة النطاق ، من جهة تؤمن لها منطقة نفوذ دائمة في شمال غرب سورية وبعمق كبير داخل الأراضي السورية لم تأخذه في اتفاقية أضنة لعام ١٩٩٨ كافية لاحتواء غالبية اللاجئين السوريين عندها . ومن جهة ثانية تمنع امتداد مشروع الإدارة الذاتية أو الفيدرالية باتجاه غرب الفرات . لكن لم تتوقع تركيا أن يصبح وجودها العسكري في إدلب عبئاً ثقيلاً على كاهلها في أية عملية سياسية مركبة بسبب تعقيد المشهد الميداني والسياسي الإدلبي وتشابك المصالح الدولية المتناقضة هناك . ولم تدرك أن إنبطاحها للمحور الروسي في أستانا لن يسعفها ، بل سيرتب عليها الالتزام باحتواء وضبضبة جميع الفصائل الإسلامية المسلحة ، وجبهة النصرة الإرهابية من بينها ، بما يرضي روسيا وحلفائها . وفعلياً لم تكن مهمة تركيا صعبة في هذا الصدد باستثناء هيئة تحرير الشام مما جعلها تصدر مرسوماً يقضي باعتبار هيئة تحرير الشام منظمة إرهابية سعياً منها لمقايضة التخلي عن النصرة وربما المساهمة في قتالها مقابل أن تقبل روسيا بقاء تركيا في إدلب. إن هذه الخطوة السخيفة والمتأخرة جداً تعري الموقف التركي المساند للجماعات الإرهابية واستخدامها طيلة سنوات المحنة السورية لتحقيق مآرب سياسية في سورية وفي المنطقة ومع أوروبا ، كما توشمت سياسة حزب العدالة والتنمية التركي وزعيمه رجب طيب أردوغان بوشم المشروع الإخواني الإسلاموي الذي يتناقض مع جميع حكومات المنطقة وتوجهاتها السياسية وهذا يصب في مصلحة حكومة دمشق التي ما برحت تذكر العالم بأن معركتها مع الإرهاب الإسلامي وليس مع شعبها الذي له مطالب مشروعة صمت آذانها عنها قبل وبعد احتجاج الناس في الشارع .
إن فشل المشروع الإسلاموي في سورية يعكس بوضوح فشل سياسات الدول الداعمة لهذا المشروع لأن هذه الدول غابت عن إدراكها نقطتان جوهريتان : الأولى الطبيعة المعتدلة للشعب السوري متعدد الأطياف والألوان ووسطيته الدينية وجنوحه للسلم ، وهذا برز بوضوح في الأشهر الأولى من ثورته السلمية قبل أن تتأسلم وتتعسكر . والثانية أن مطالب الشعب السوري لم تكن قط دينية أو طائفية إنما مطالب دنيوية لتحسين شروط حياته وإدارتها بطريقة عصرية . ولعل هذه الدول تدرك ولو متأخرة أن أمريكا وروسيا قد قلبتا الطاولة على الجميع بأخذهم جملة في مجاري مسار أستانا من أجل تهيئة الميدان للانتقال إلى عملية سياسية تقودانها منفردتين وإن كانت تحت خيمة أمم متحدة لا حول لها ولا قوة .
تخطيء تركيا إذا اعتقدت أنها وحدها تمون على الجماعات الإسلامية المسلحة التي تجمعت في محافظة إدلب. فالجماعات الإسلامية مدعومة من السعودية ومن قطر ، وتركيا ارتضت لنفسها أن تتموضع طرفاً في الخلاف السعودي القطري ( وهابي إخواني من جهة الدين ) ، وتنظيم القاعدة كما تنظيم داعش إرهاب دولي هو من عدة شغل السياسة وله وظائف عسكرية وسياسية تتعدد بتعدد الدول المساهمة في نشوئه وتوجيه حركاته . من هذا المنطلق فإن أية مقايضة تركية مع الروسي ، فوق الطاولة ، في قمة أستانا القادمة في طهران التي ستعلن عمليات إدلب نهاية مسارها مقابل تسليم جزئي للمحافظة مع أن أبواب موسكو مفتوحة على الرياض وسورية ورقة من بين أوراق السياسة المشتركة بينهما . ومع الأمريكي تحت الطاولة لتليين مواقفه تجاهها ورفع عقوباته عنها . لن تتم هذه المقايضة ما لم تدفع تركيا ثمنها وهو خروجها التام من محافظة إدلب وتمركزها فقط في الريف الشمالي لمحافظة حلب المحاذي لحدودها مع سورية مع فتح معبر لخروج من يريد من النصرة أو الجماعات الإسلامية الأخرى إلى هناك هرباً من الضربات الروسية المغطاة أمريكياً . وتركيا التي تعاني أوضاعاً اقتصادية متخلخلة الآن هي أشد ما ترغب بتحقيق انتصار في سورية يحمي حكومتها الإسلاموية من ضغوطات الداخل ، لكن أي تواطؤ من قبلها في إدلب مع روسيا وايران سواء بعملية عسكرية أو سياسية لا تأخذ منها سوى قبض الريح بعد انكشاف دورها التخريبي الداعم للإرهاب .
إن سيناريو إدلب رغم تعقيدات الوضع فيها سينتهي بتقديري كما انتهت إليه مناطق خفض التصعيد السابقة بتسليمها للشرطة الروسية وانحسار الدور التركي هناك سواء بعمل عسكري محدود أو بعملية سياسية تجنب محافظة إدلب ويلات حرب مدمرة وفي الوقت ذاته تحمي تركيا من مئات آلاف اللاجئين الذين لا مهرب لهم إلا نحوها . عندئذِ تتهيأ الظروف للانتقال إلى عملية سياسية خارطة طريقها تضعها خارجية الدولتين العظميين .
من نافل القول أن الصراع الدولي على الشمال السوري هو رديف للصراع الدولي في جنوبه مع اختلاف بعض اللاعبين الإقليميين ففي الجنوب إسرائيل وإيران بينما في الشمال تركيا وإيران والقاسم المشترك هو إيران التي يتفق اللاعبون الدوليون في المنطقتين على إخراجها من سورية بسبب دورها المتضخم ، وفي الوقت نفسه إضعاف الدور التركي الذي يطمح للتمدد جنوباً وشرقاً ، وذلك قبل البدء بأية عملية سياسية تخرج سورية من محنتها التي ساهم فيها اللاعبون الإقليميون بضوء أخضر من اللاعبين الدوليين .
غير أن الأطراف الإقليمية تسوقها غطرستها للتصرف وكأنها هي من يتحكم بمصير سورية وأن كل منها شيد لنفسه وضعاً يجعله لاعباً رئيساً على الطاولة ، يناور بهذا الوضع ويقايض به كما يشتهي ، لكن هذه الأطراف نسيت أو تناست ، سيان ، بأن كل ضوء أخضر يتبعه ضوء برتقالي ينذر وضوء أحمر يمنع تجاوز حدود التصرف المسموح به ، وبالتالي فإن بقاء أي دولة إقليمية في سورية أو في جزء غالِ من أرضها ما هو سوى إقامة مؤقتة فيها / أو فيه سواء بإرادة دولية تمسك الآن بالملف السوري أو بإرادة الشعب السوري غداً عندما يستعيد عافيته وسيادته على كامل ترابه الوطني ويتعامل مع أي تواجد عسكري أجنبي ، إقليمي أو دولي ، على أنه قوة احتلال".