بذور الحرية وثورة المرأة - بهار أورين

بذور الحرية وثورة المرأة - بهار أورين
24 كانون الثاني 2024   04:30

لقد بُني تاريخ الحضارة على هزيمة المرأة وكسرها وقمعها، ولم تتأثر أي هوية بثقافة الهيمنة الذكورية بقدر المرأة، وهذا ما نراه في الشواهد التاريخية حتى يومنا هذا. لقد ترسخت هذه الثقافة في كل خلايا المجتمع وتتجدد يوماً بعد يوم بطرق وأساليب مختلفة. كما نعلم، أن المرأة قد لعبت دائماً على مر التاريخ دور المرشد ومصدر الثقافة المادية والمعنوية ومثلت تطور المجتمع وتقدمه، وكان لها تأثيرٌ كالرجل، كما لعبت دوراً مهماً في الحفاظ على الذاكرة الاجتماعية ونقلها من جيلٍ إلى جيل، أي أنها كانت تربط الماضي بالمستقبل، ويمكننا اليوم رؤية آثار ثقافة الأم في كل مكان، من التاريخ الشفهي، وملاحم العشق، والوشوم المنقوشة على سواعد النساء ووجوههن وفي أساطير كل شعب، لذا يمكن لتسليط الضوء على تاريخ المرأة أن يلعب دوراً حاسماً في قضية حرية المرأة، لأن التاريخ كُتب وسُرد دائماً من جانب واحد ومن قبل الرجال، وقد تم تحريفه بالتأكيد. 

 يُعد عصر الحداثة الرأسمالية والدولة القومية، من أكثر العصور التي تعرضت فيها المرأة للإبادة والقمع كأيدلوجية ووعي وإظهاره على أنه الصواب، ولم تنكسر المرأة وتُقمع على صعيد الروح والجسد والعاطفة والإرادة لهذه الدرجة في أي مرحلة أخرى من مراحل التاريخ، لكن ما يميز هذه المرحلة عن سابقاتها، هو أن المرأة لم تعد ترغب في مرحلة الانكسار الثالثة هذه كما وصفها القائد آبو، بالخنوع لهذا القمع والاستغلال، وأننا نرى نضالها ومقاومتها يومياً، ومما لا شك فيه أن ارتفاع معدلات قتل النساء يدل على أن النظام المهيمن يعتبر شخصية المرأة الحرة خطراً عليه، ومن ناحية أخرى، يبدو أن المرأة قد اختارت اتخاذ القرارات المتعلقة بها وبجسدها وحياتها ومستقبلها، ولهذا وصف القائد آبو القرن الـ 21 بقرن "ثورة المرأة". ومع الحرب العالمية الثالثة الآخذة بالتعمق والانتشار يوماً بعد يوم، بالكاد لنا أن نتخلص من هذه الفوضى بثورة اجتماعية وفكرية تقودها المرأة، وإلا فإن أنظمتها ومؤسساتها تتجدد بطرق وأساليب مختلفة، وتسعى إلى تنفيذ الهندسة الاجتماعية، وتصميم المجتمع وفقاً لقوانينها وأعرافها.

وتُعدّ حركة التحرر الكردستانية إحدى أكثر الحركات راديكاليةً وحيويةً من بين الحركات التحررية في منطقة الشرق الأوسط الفوضوية، إذ تلعب دوراً ريادياً في سبيل حرية الشعوب، لا سيما المرأة، وأصبحت أشبه بشعلة أملٍ في عتمة عصر الظلم، ويُعد وجود المرأة كعنصر أساسي في النضال والثورة من أبرز ملامح حركة التحرر الكردستانية، وتقاوم حركة حرية المرأة الكردية بالخبرات والتجارب التي اكتسبتها على مدار نصف قرن، من أجل حرية جميع النساء المضطهدات. ومع اندلاع ثورة روج آفا بالتحديد، أصبح دور المرأة في بناء المجتمع وانخراطها في جميع مجالات الحياة نموذجاً عالمياً، وسلطت هذه الإمكانيات وهذا التطبيق الحالي الضوء على حقيقة أن بناء مجتمع ديمقراطي ليس حلماً طوباوياً بعيد المنال، بل يمكن تحقيقه.

إن الدور الحاسم والبارز للمرأة في جميع مجالات دمقرطة المجتمع جعلها هدف جميع هجمات العدو واغتيالاته، والحرب الدائرة في المنطقة الآن هي في الأساس حرب نموذجية وأيدلوجية، ويرتكز كل من إبادة المرأة، وتدمير الطبيعة، والسلطة على عقلية الهيمنة الذكورية، فمع تطور ثورة المرأة في كردستان والشرق الأوسط خلال السنوات الأخيرة، ارتفعت وتيرة إبادة المرأة في العالم أيضاً، ولا تقتصر هذه الإبادة على قتل النساء فقط، فاعتقال النساء وتعذيبهن ووضع العقبات في طريقهن يندرج أيضاً تحت إطار إبادة المرأة، وتُعد المجزرة التي ارتُكبت بحق المناضلات الثلاث؛ ساكنة جانسيز، وفيدان دوغان وليلى شايلمز، في باريس عام 2013، بداية أخرى للإرهاب الممارس بحق الرياديات الكرديات في كردستان وخارجها.

استُهدفت عشرات النساء الكرديات في أجزاء كردستان الأربعة من قبل الدولة التركية الفاشية بالتعاون مع أجهزة الاستخبارات في شمال كردستان خلال العقد الأخير، فبعد اغتيال ناكهان آكارسال بـ 11 رصاصة في السليمانية عام 2022، اغتالت الدولة التركية هذه المرة السياسية والمناضلة الكردية زلال زاغروس (فريال خالد) في كركوك، يبدو أن عداء سياسة الهيمنة الذكورية التاريخية يستمر بمختلف الطرق والأشكال، وبطبيعة الحال، يدل اغتيال المناضلات والثائرات على خوف العدو من تطور ثورة المرأة، لأنه يعلم أن المرأة وحدها القادرة على إسقاط نظام الهيمنة وتحطيم جدران الاستبداد، وعلى وجه الخصوص، بثت حركة "المرأة، الحياة، الحرية" في إيران وشرق كردستان ومقاومة المرأة وانتفاضتها ونضالها المهيب هناك، الخوف في قلب السلطة مجدداً، فقد رأوا كيف لقوة المرأة وإيمانها أن تخلق ثورة حتى مع انعدام الفرص.

إن مقاومة المرأة هذه في جميع أنحاء المنطقة، لا سيما في أعقاب عام 2011، هي بشارة للتغيير الجذري، وفي الأساس، تدل هذه الفوضى الحالية على أن منطقة الشرق الأوسط جاهزة للتغيير وثورة المرأة، فيما تدل التطورات الحالية على أن أمامنا طريقان فقط؛ إما المقاومة والنضال أو الخنوع والظلم، ويشير موقف أهالي المنطقة، لا سيما النساء، إلى أنهم مصرون على التمسك بالطريق الأول، فالمرأة الآن تثق بنفسها وترغب بتغيير مجرى ذلك التاريخ الخاضع لعقلية الهيمنة الذكورية وتحويله إلى مجتمع أخلاقي وسياسي يعيش فيه الرجل والمرأة ويعملان جنباً إلى جنب، أي حياة تسودها المساواة، ولا شك أن ما يبقي هذا المجتمع صامداً هو نموذج حرية المرأة.

وتحتوي الأمثال القديمة دائماً على دروس قيمة وعِبر صالحة لكل زمان ومكان، لذ ا فإن مقولة "كل نبتة تنمو على جذورها" هي دليلنا في القرن الـ 21، أي علينا نحن النساء أن نبحث عما فقدناه حيث فقدناه ونعثر عليه، فالفرصة متاحة لنا الآن في هذه اللحظات التاريخية، لأن نسلط الضوء على حقيقة المرأة في التاريخ مجدداً، فهذه الحقيقة متجذرة في العمق التاريخي والثقافي لميزوبوتاميا، وتتبرعم ثقافة وحس المقاومة والحرية هذه اليوم بأسلوب معاصر ولن يتمكن العدو من اقتلاع جذر هذه المقاومة مهما حاول القضاء على النساء المناضلات.  وبذور هذه المقاومة المستمرة منذ سنوات والتي غرست في كل مكان، ليست مستحيلة الاختفاء وحسب، بل تتجدد وتنبت يوماً بعد يوم، وتحتاج هذه الشجرة الآخذة بالنمو إلى العناية والاهتمام والمحاولة المستمرة والنضال لتدوم، وعلينا أن نتذكر هذه الحقيقة دائماً.    

(ر)