هل المجتمعات بحاجة لشرطة الأخلاق أو هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؟ - هيفيدار خالد
جميعنا يعلم مكانة الأخلاق في المجتمع، حيث تعد العنصر الأهم في تماسكه والحفاظ على قيمه الأصيلة، وذاكرته المقدسة لتكديس خبراته وتجاربه وسبباً جوهرياً لبقائه صامداً، لذا فالأخلاق ذات شأن كبير بالنسبة للمجتمع الإنساني، حيث إنها تساهم في توطيد العلاقات بين الأفراد من كافة الأطياف والثقافات، ودون الأخلاق مصير أي مجتمع حتماً سيكون الهلاك والزوال؛ لأن المجتمع بطبعه أخلاقي وذلك موجود في جوهره.
هذا ما دفعنا لطرح جملة من التساؤلات حول مؤسسات فرضت أهواءها تحت اسم حماية الأخلاق والمجتمع. من قبيل هل المجتمعات بحاجة لشرطة الأخلاق أو هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مثلاً؟ أو بحاجة إلى دوريات الإرشاد أو شرطة النظام العام؟ أو مؤسسة "ديانت" أو الشرطة الدينية؟ للعيش بأمن وسلام كما يزعم متعطشو السلطة والمتربصون بحياة الأفراد وعلى وجه الخصوص المرأة؟ وكيف للمجتمع أن يكون مجتمعاً من دون الأخلاق؟ وهل المجتمع بحاجة لكل هذه المؤسسات والمرجعيات ذات الطابع الديني البحت ليكون أخلاقياً؟ وهل يمكن الدفاع عن الأخلاق بطرقٍ وأساليبَ تفتقد إلى الأخلاق؟
استحوذ اسم شرطة الأخلاق التي تشكلت قبل 18 عاماً من الآن في إيران، إبان حكم محمود أحمدي نجاد للبلاد، على عناوين الصحف والأخبار، بعد الانتفاضات الشعبية التي شهدتها إيران إثر مقتل الشابة الكردية جينا أميني على يد هذه الشرطة المعروفة بانتهاكاتها وممارساتها ضد النساء في البلاد ومراقبتها لهن بشكل دائم ومتواصل، خاصة هؤلاء اللواتي يتحدين ارتداء الحجاب الإجباري، الذي يفرض عليهن عنوة.
أربعون عاماً والمرأة في إيران تتعرض لأبشع سياسات القمع والاضطهاد والظلم، أربعون عاماً والمرأة الإيرانية تئن تحت وطأة ممارسات السلطة الحاكمة والذهنية الذكورية المتحجرة، التي تقيّد حريتها، وحركتها ونضالها وتكبح إرادتها الحرة وتلاحقها بدوريات شرطة الأخلاق وعناصر من ميليشيا الباسيج المتشددة المعروفة بولائها الكامل للسلطة. المجتمع في إيران، وعلى وجه الخصوص المرأة، ليس بحاجة إلى شرطة الأخلاق، لما له من عادات وتقاليد ومبادئ وأخلاق، عزز من تماسكه وقوته، بعد أن توارثها عبر سنوات طويلة واستطاع من خلالها ضمان ديمومته واستمراريته وبقائه. مجتمع له تاريخه وثقافته وأصالته وللمرأة دور في تطويره وتلاحمه وتقدمه.
الشعوب الأصلية ليست بحاجة إلى سلطة تحكمها وتكتم أنفاسها وتضيّق الخناق عليها تحت اسم الأخلاق أو الإرشاد، وتراقبها وتقيّد مساحة حريتها ولا دوريات مراقبة تتابع تحركاتها. بل هي بحاجة إلى حياة تسودها الحرية والكرامة والتسامح والعدالة والسلام وذلك يتحقق عبر الحوار والاعتراف بالآخر. الشعوب في هذه البقعة الجغرافية بحاجة إلى حياة حرة وأجواء تسودها الديمقراطية الحقيقية. بحاجة لمن يجيب عن أسئلة إجاباتها شائكة في عقولهم.. لماذا يعتبر عدم ارتداء المرأة للحجاب حراماً؟ ولماذا يجب ألا تسافر بمفردها؟ ولماذا أجساد النساء حصراً ترتبط بالأخلاق دون غيرها؟ لماذا هي هوس دائم بالنسبة لسلطة الرجال؟
وأنتم تتصفحون الأخبار، لا بد لكم أن صادفتم أو سمعتم باسم هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وتحديداً في السعودية، وكيف أن للمرأة النصيب الأكبر من ممارسات وانتهاكات تلك الهيئة، التي تنشط في ملاحقة الناشطات السعوديات الحقوقيات، حيث إنها اعتقلت العشرات من النساء المناضلات من أجل حقوق الإنسان والمرأة والانخراط في كافة مجالات الحياة، بشكل تعسفي، وضربت وعنّفت وعذبت الكثير منهن، والآن الكثير منهن يقبعن في سجون المملكة والبعض منهن ما زال مصيرهن مجهولاً، إضافة إلى الأحكام القاسية بسجنهن لأكثر من عشر سنوات في بعض الأحيان، لتكون الهيئة بذلك بمثابة الكابوس الذي يطارد النساء الناشطات.
ولكن لماذا كل هذه الإجراءات التعسفية بحق المرأة في السعودية؟ لماذا كل هذا العنف والإقصاء والتشهير؟ هل حقاً أن المرأة لا تستحق الحياة والخروج إلى الفضاء العام كما يخرج جميع الأفراد الآخرين؟ أم أن قوانينهم الشوهاء هي من أراد لها ذلك؟ ولكن الحقيقة هي أن المرأة أسيرة قوانين وتشريعات عنصرية رجعية ذات طابع ذكوري يترك المجتمع في حالة من التخلف الاجتماعي الدائم.
الأمر في أفغانستان كان أكثر صعوبة بالنسبة للنساء، خاصة بعد سيطرة طالبان على الحكم في البلاد، فقد ألغت وزارة شؤون المرأة واستبدلتها بوزارة كانت ذات يوم تفرض تعاليم دينية صارمة، حسب فهم الحركة للنصوص الدينية. فقد أزالت اللافتة التي كانت تحمل اسم وزارة المرأة، من مبنى الوزارة، ووضعت مكانها لافتة مكتوب عليها وزارة "الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر".
هذه الوزارة قلّصت حرية المرأة ومنعت النساء من الخروج من منازلهن بهدف العمل وفرضت عليهن أوامر بمنع التعليم والالتحاق بصفوف الدراسة وعدم الذهاب إلى الحدائق والمطاعم والمنتزهات العامة، وعدم التجوّل دون محرم وفرضت قيوداً صارمة على المواطنين، وخاصة النساء والفتيات، فضلاً عن نشر الخوف وانعدام الثقة في جميع أرجاء المجتمع. لتوجّه بذلك ضربة قاضية لجهود المرأة ونضالها الذي بذل خلال السنوات الماضية وتنسف جميع المكتسبات التي حققتها على الأرض، وكل ذلك تحت اسم الدين وأحكام الشريعة.
وإذا ما أردنا معرفة أوضاع المرأة السودانية عن كثب، فلا بد لنا أن نتطرق إلى ممارسات وانتهاكات شرطة النظام العام في البلاد التي أنشأها عمر البشير عام 1993؛ بهدف تطبيق الشريعة الإسلامية في السودان، وتعد من أشهر الشرطات الدينية في العالم الإسلامي، حسب مراقبين ومتابعين، كانت لهذه الشرطة حق اعتقال النساء ومحاكمتهن سريعاً في محاكم خاصة بالنظام العام وتضمنت العقوبات الجلد أو السجن ومهاجمة التجمعات أو إغلاق الأماكن التي بها اختلاط بين الجنسين، وتعنيف النساء اللاتي لا يرتدين زياً محتشماً حسب زعمهم، ومهاجمة أماكن الأعمال التي يرون فيها مخالفة للشريعة.
بالطبع كانت كل الممارسات التي تقوم بها هذه الشرطة قمعية وخرقاً للحياة الخاصة، إلا أن الكثير من المتعصبين في البلاد كانوا يدعمون هذه الشرطة، الأمر الذي عزز من العنف ضد المرأة وزاد من سلطة الرجل على النساء اللاتي مُنعن من أي مشاركة فعالة لهن في النشاطات الاجتماعية في البلاد أو حتى من أبسط حقوقهن في الحياة.
في دولة ماليزيا الآسيوية أيضاً توجد الشرطة الدينية التي هي أشبه بشرطة الأخلاق في إيران، وهي مجموعة من الضباط التابعين للحكومة الفيدرالية، مسؤولة عن فرض الشريعة التي يلتزم بها ثلثا السكان من المسلمين، ولدى تلك المجموعة سلطة الاعتقال، وتشمل المخالفات، الأكل نهاراً في رمضان، والاختلاط الزائد بين الرجال والنساء، ويُحاكم المخالفون في محاكم للشريعة، منفصلة عن النظام القضائي المعتاد.
لكن في تركيا التي تزعم الديمقراطية والحرية وحقوق الإنسان، والعكس صحيح تماماً. أصبحت في عهد أردوغان البلد الذي تنعدم فيه الحريات الشخصية والحقوق ويفتقد للعدالة، حيث باتت العنصرية الموجودة فيه تخنق الجميع وتقطع الأنفاس، وإحدى المؤسسات التي تقوم بهذه المهمة هي رئاسة الشؤون الدينية المعروفة باسم "ديانت"، التي تفرّغت لإصدار فتاوى مُثيرة للجدل في المُجتمع الذي يُعاني من أزمة اقتصادية ومعيشية غير مسبوقة، فتاوى تعادي حقيقة وجوهر المرأة، فهي كثيراً ما تتحدث عن لباس المرأة وعدم ارتدائها البنطال الضيق، زاعمة بأنه يهدد أخلاق المجتمع، كما أصدرت بيانات أجازت فيها زواج القاصرات من الأيتام ضحايا الزلزال الأخير الذي ضرب تركيا وسوريا شباط الماضي وخلّف نحو 46 ألف قتيل، وآخر فتوى لها كانت أنه إذا لم يُعطِ الرجل زوجته ما يكفي من المال لاحتياجاتها الشخصية، فبإمكان المرأة أن تأخذ نقوداً من محفظة زوجها دون إبلاغه، وكانت قد تزامنت هذه الفتوى مع انسحاب تركيا من اتفاقية إسطنبول لمناهضة العنف ضد المرأة. قرار الانسحاب جاء لإرضاء هذه المؤسسة التي كانت ترى في هذه الاتفاقية خطراً على مستقبلها ومستقبل قرارتها وتشريعاتها الاستبدادية بحق المرأة.
فبعد انسحاب تركيا من اتفاقية إسطنبول، سنحت الفرصة أمام مرتكبي العنف ضد المرأة للإفلات من العقاب، وازدادت جرائم قتل النساء، ومُهِّد الطريق لضحايا الاغتصاب للزواج من مغتصبيهن، حتى لو كن صغاراً، وصُعّدت الاعتداءات على الناشطات في الشوارع. وتم إغلاق الجمعيات والتعاونيات النسائية. ولا يزال القمع ضد الصحفيات والناشطات والجمعيات النسائية مستمراً بلا هوادة، نعم هو انسحاب من شأنه زيادة العنف ضد المرأة والإفلات من العقاب، وبالتالي إخراج المرأة من الحياة الاجتماعية.
ونحن نتحدث عن كل هذه المؤسسات التي هي بمثابة الأجهزة الأمنية الخاصة بالدولة وسلطتها وكاميرا المراقبة التي تلاحق الجميع والتي تنتهك حقوق النساء والأفراد في المجتمعات، نتذكر ممارسات جهاز الحسبة لدى تنظيم داعش الإرهابي الذي كان يتعقّب النساء وينتهك خصوصياتهن في كامل الجغرافيا التي كان يحتلها في سوريا والعراق وأجزاء من أفريقيا.
وعادة ما يكون أول ما يقوم به تنظيم داعش الإرهابي في المناطق التي يسيطر عليها هو إطلاق اليد الطولى لجهاز الحسبة لرصد وملاحقة المخالفين لـ "أحكام الشريعة الإسلامية" التي يطبقونها على الأفراد حسب أهوائهم.
وتقوم الحسبة بملاحقة النساء والزج بهن في السجون وبث الرعب في نفوسهن وتعذيبهن وضربهن وجلدهن. ففي مدينة الموصل العراقية إبان سيطرة داعش على المدينة، استخدمت الحسبة العديد من الأساليب المرعبة لتخويف النساء، منها ما يعرف بالعضاضة التي كانت وسيلة له لتعذيب النساء، وهي آلة مخصصة لتعذيب النساء اللواتي يتحدين الزي الذي حدده داعش لهن، وهذه الآلة كانت تستخدم في القرن 15 الميلادي وأصبحت في عهد التنظيم بمثابة كابوس للنساء في الموصل.
وفي وقتنا الحالي، تتعرض المرأة لرقابة إلكترونية واسعة على مواقع التواصل وتطبيقات الإنترنت، فالتنمر والإساءة بالكلمات والشتائم والتعليقات غير اللائقة من أبرز سمات تلك المواقع، وذلك بهدف التقليل من شأن المرأة، وبالتالي استهداف وانتهاك خصوصياتها، إذ يعد تطبيق هذه الإجراءات التحكمية من قبل السلطة الحاكمة ضد النساء يعد إجحافاً بحقهن، فهي تقيّد حرية المرأة وتغلق كافة الأبواب أمام مسيرتها في الحياة وتُجبرها على الالتزام بالمعايير الأبوية من أجل البقاء على قيد الحياة.
إلا أن المرأة تستطيع مواجهة كل هذه الإجراءات والسياسات، من خلال تنظيم صفوفها وخلق آلية عمل مشتركة تستند إلى إرادة مشتركة ووضع مهمة التوعية النسوية على عاتقها؛ من أجل الكشف عن كافة الأساليب والمؤامرات التي تحاك ضد النضال النسوي في المجتمعات الذكورية، وبالتالي ممارسة حقها في الاختلاف وفي التعبير وكسر السلاسل والقيود التي يحاول النظام الذكوري تكبيلها بها.
وعلى المرأة أن تعلم أن مؤسسة الدولة تحمي الجناة الذين يرتكبون جرائم بحقها لذا عليها تطوير أساليبها وأدواتها أكثر في هذا المجال والتعبير عن ذاتها ورفع صوتها ضد المعاناة الناتجة عن ألاعيب السلطة الذكورية وتحقيق مجتمع أخلاقي وسياسي وديمقراطي تصان فيه حريتها وكرامتها بعيداً عن براثن الذهنية الذكورية التي لا تزال ترى فيها الطبقة الضعيفة وتربط حياتها بمفاهيم العيب والحرام والحلال وغيرها الكثير؛ بهدف تكبيلها وجعلها أداة طيعة لتنفيذ مآرب تلك الذهنية التي تجثم على أنفاس تلك المجتمعات كافة.