القائد عبد الله أوجلان: من لا يمتلكون القوة ولا يتحلّون بالأخلاق لن يحظوا بالعشق أيضاً

"كنتُ قد أنجزتُ اللقاءَ التاريخيَّ الحرَّ مع المرأة. ولكن، لَم يُقَدَّر لي أبداً أن أنجحَ في الوصولِ إلى "شيرين" كـ "فرهاد" معاصر، باتَ التمكنُ من العملِ بعشقٍ وهيامٍ لأجلِ حلِّ جميع القضايا الاجتماعية أمراً مهماً. أو بالأصح، كانت أخلاقُ العشقِ الحقيقيّ تعني القدرةَ على الكفاحِ تجاه القضايا الاجتماعيةِ والتمكنَ من حلِّها. فمَن لا يتحلى بتلك المقدرة أو هو عاجزٌ عن الاتسامِ بها، لا يُمكنُه أنْ يمتلكَ العشقَ أو يتصفَ بأخلاقِ العشق".

القائد عبد الله أوجلان: من لا يمتلكون القوة ولا يتحلّون بالأخلاق لن يحظوا بالعشق أيضاً
12 آب 2024   02:20
مركز الأخبار

يتناول القائد عبد الله أوجلان في المجلّد الخامس من مرافعاته والذي يحمل عنوان "دفاعاً عن الكرد المحصورين بين فكّي الإبادة الثقافية/ القضية الكردية وحل الأمة الديمقراطية" قضايا المرأة، نضال المرأة في سبيل الحرية، تغيير الرجل، العشق ومبادئ العشق، ويقدّم فيها سبل الحل. 

ونعرض لكم هنا مقتطفات من هذه المرافعات:  

"لأولِ مرةٍ بدأتُ في شهرِ آذار من عامِ 1987 بصياغةِ التحليلاتِ بشأنِ المرأة. حيث شعرتُ حتى النخاعِ بالبلاءِ الذي ابتُليتُ به، وبالتالي ابتُلِيَت به الحركةُ من خلالِ المرأة. ولأولِ مرةٍ حاولتُ صياغةَ جوابٍ إزاء مواقفِ "كسيرة" التي كانت تُجَنِّنُ وتُغيظُ رفاقي الأعزاء. حيث اتَّبعتُ أسلوباً جديداً، ألا وهو أسلوبُ التحليل. وما حفَّزَني على ذلك هو عدم تَقَبُّلي لمعاقبةِ بعضِ النساءِ بالموت، وفي مقدمتِهنّ عائشة أكارصو من مدينةِ بازارجق، وصائمة آشكين الديرسمية، وآيتان النصيبينية. لقد بدأَت قضيةُ المرأةِ تكتسبُ طابعاً جدياً باضطراد. ومع كلِّ دورةٍ تدريبية، كنتُ أخطو خطوةً أخرى للتعمقِ أكثر في التحليلاتِ بهذا الشأن. كما كان ازديادُ عددِ الشاباتِ بين صفوفِنا يُحَتِّمُ علينا إيجادَ أجوبةٍ جذريةٍ لقضيةِ حريةِ المرأة. لكنّ بلاءَ "كسيرة" الذي ابتُليتُ به شرَّ بلية كان يلعبُ دوراً رئيسياً في ذلك. إذ كان من غيرِ الصائبِ قتلُها. لكنّ العيشَ معها ولو ساعةً واحدة أضحى أمراً عصيباً. بَيْدَ أنّ الكلماتِ التي تَلَفَّظَت بها عندما استشهدَ الرفيقُ معصوم قورقماز تشيرُ إلى مدى حذاقتِها ومتابعتِها لشؤونِ التنظيمِ بعينٍ صحيحة. إذ قالت لي: "لقد رحلَ معصوم قورقماز الذي كان أكثر شخصٍ تثقُ به. فماذا أنتَ فاعلٌ الآن؟". وكأنها كانت تنتظرُ مني التراجعَ والاستسلامَ لها.

وهكذا باشرتُ بحملةِ عام 1987 والغيظُ الحانقُ والآلامُ الشديدة النابعةُ من هكذا مقارباتٍ كانت تنخرُ فيّ. فحسبَ الأسلوبِ التقليديّ؛ كان ينبغي قتلُها ألفَ مرة. أو كان بالمقدورِ التغلبُ على المشكلةِ برَميِ الطلاقِ عليها. لكنّ موقفاً كهذا كان يعني الهزيمةَ الأيديولوجيةَ والسياسيةَ بالنسبةِ لي. علاوةً على أنّ تسليمَ التنظيمِ والحزبِ لها، أو مشاطرتَها إياهما كان يصبُّ في نفسِ المصبّ. وحتى لو كانت صادقة، إلا إنها كانت متطفلةً بعيدةً عن الكدح. وكانت تقتصرُ فقط على المشاهَدةِ والرصدِ ببراعة، ثم التحفيزِ على إطلاقِ الحملاتِ التكتيكيةِ السلبية. لذا، كنتُ أودُّ تحليلَ كلَّ ما هو معنيٌّ بالمرأةِ متجسداً في شخصيتِها. زِدْ على ذلك أني كنتُ أتطلعُ إلى صياغةِ ردودٍ جذريةٍ بشأنِ الحريةِ والمساواة فيما يتعلقُ بالعلاقاتِ بين الجنسَين، والتي كانت تفرضُ نفسَها طردياً.

أما إشراكُ النساءِ في حقلِ التنظيمِ العسكريّ، حيث تطغى عليه البصماتُ والأيديولوجيةُ الذكوريةُ الحاكمةُ مئةً بالمئة؛ فكان خطيراً للغاية. لقد كان ذلك أَشبَه بوضعِ الديناميتِ في صميمِ هذا الحقل. فمفاهيمُ الرجالِ والنساءِ السائدة لَم تَكُنْ تذهبُ أبعدَ من المفهومِ الجنسويِّ التقليديِّ الفظ. حيث لَم تتخطَّ مفاهيمُهم إطارَ استثارةِ بعضِهم بعضاً بإشارةٍ من العينِ والحاجب. لقد جلبتُ البلاءَ الأكبرَ لنفسي بنفسي. فحتى الزعيمُ الأنصاريُّ الشهيرُ تشي غيفارا لَم ينبذ الإشباعَ الجنسيّ. بل وقَبِلَ به كحاجةٍ ضروريةٍ عندما ضمَّ النساءَ إلى صفوفِ الأنصار. لكنّ تَقَبُّلي لهذا الأمر، وفرضَ قبولِه على نفسي وضمن النشاطاتِ التنظيمية، وخاصةً ضمن النشاطاتِ العسكرية؛ كان سيعني القضاءَ على أنفسِنا تلقائياً ومنذ البداية.

في حين كان تَركي المرأةَ وشأنَها يكفي بمفردِه لتصفيتِنا حسبَ وضعِنا القائم. إذ كنتُ أفتقرُ إلى الرفيقِ أو الفريقِ الذي يتحكمُ بالغرائزِ الجنسيةِ أو يُسَخِّرُها في خدمةِ المصالحِ التنظيميةِ وفقَ فنِّ السياسة الصحيح. كما كان إقصاءُ المرأةِ كلياً، وإنجازُ الثورةِ من دونِها أمراً غيرَ صائبٍ بتاتاً، سواء بالنسبةِ لي أم على صعيدِ التنظيم. وعليه؛ يبقى أمامنا خيارٌ آخر: فـ"التقييدُ بالزواج" على حدِّ التعبيرِ الشعبيّ، أي "الزواجُ الثوريُّ" الذي صَيَّرَته التنظيماتُ اليساريةُ الثوريةُ موضةً رائجة؛ قد يَكُونُ حلاً. لكنني لَم أَكُ أنظرُ بعينِ الصوابِ إلى هذه الأساليب. ذلك أنه، وبالإضافةِ إلى إفراغِها الطاقةَ الثورية من محتواها، فحتى الظروفُ الفيزيائيةُ كانت لا تسمحُ بهذا النوعِ من الزواج، والذي سيؤول إلى إرساءِ سُفُنِنا في موانئِ أوروبا كلاجئين، أو إلى الانخراطِ بين الشعب متطفلين عليه باسمِ التنظيم. وهذا ما كان يعني بدورِه شكلاً آخر من أشكالِ التصفوية.

لكنّ الطريقَ الذي اختَبَرتُه تجسَّد في العزمِ على تكريسِ نمطٍ من العلاقةِ لَم يَجْرِ التفكيرُ به في ثقافةِ الشرقِ الأوسط، بل ولَم يخطرْ على البالِ بتاتاً. ألا وهي المجازفةُ والصراعُ حتى آخِرِ رمق، بسلوكِ طرازٍ من الحياةِ ضمن إطارٍ من العلاقاتِ والتناقضاتِ الديالكتيكية خارجَ نطاقِ الزواجِ الذي يُعَدُّ ضرورةً اضطرارية. كنتُ أرمي من ذلك إلى تعريفِ الجنسَين، وبالأخصِّ المرأةِ على وجودِها الإنسانيِّ الحقيقيّ، وعلى دربِ تحررِها. فكان هذا امتحاناً عظيماً للروحِ الثوريةِ الداخلية. فكثيراً ما استُثمِرَ في نوايا مُغرِضة فانخدعَ المئات. إلا إنّ هذه النشاطاتِ قد أَفرَزَت حقاً المرأةَ الشجاعةَ والحميمةَ والعاقلةَ والجميلةَ أيضاً. فقَدَّمنا عدداً جمّاً من خيرة فتياتِنا الذكياتِ والحسناواتِ على دربِ الشهادة. وأمسَيتُ وكأنني أخلقُ نفسي يومياً كي أكونَ جواباً لحسراتِهنّ وآمالِهن. لكنّ الألمَ ظلّ ينهشُ فيَّ لتقصيري في الإيفاءِ بذلك.

كنتُ قد أنجزتُ اللقاءَ التاريخيَّ الحرَّ مع المرأة. ولكن، لَم يُقَدَّر لي أبداً أن أنجحَ في الوصولِ إلى "شيرين" كـ "فرهاد" معاصر. إلا إنني بالمقابل لَم أُؤمِنْ كثيراً بجدوى تحقيقِ اللقاءِ وتجاوُزِ الوضعِ المنصوصِ عليه في هذه الحكايةِ العامرةِ بالشَّوقِ والحنين. إذ أدركتُ حينها أنّ اللقاءَ في ظلِّ الظروفِ السائدة (في أحضانِ النُّظُمِ المهيمنة) يعني موتَ العشق. وعليه، باتَ التمكنُ من العملِ بعشقٍ وهيامٍ لأجلِ حلِّ جميع القضايا الاجتماعية أمراً مهماً. أو بالأصح، كانت أخلاقُ العشقِ الحقيقيّ تعني القدرةَ على الكفاحِ تجاه القضايا الاجتماعيةِ والتمكنَ من حلِّها. فمَن لا يتحلى بتلك المقدرة أو هو عاجزٌ عن الاتسامِ بها، لا يُمكنُه أنْ يمتلكَ العشقَ أو يتصفَ بأخلاقِ العشق.

إنّ الشرطَ اللازمَ لتحَقُّقِ العشقِ حسبَ فلسفةِ هيغل، هو تَحَقُّقُ توازنِ القوى بين المرأةِ والرجل. هذا الشرطُ الضروريُّ، ولكنْ غيرَ الكافي، يعَبِّرُ عن المرأةِ القوية. نحن لا نتحدثُ هنا عن توازنِ القوى الفظةِ والمادية. بل عن توازنِ القوى الجسديةِ والنفسيةِ والاجتماعية. بمعنى آخر، لا عشق للمرأةِ القابعةِ تحت نيرِ أقدمِ وأعمقِ أشكالِ العبودية. ولكي أستطيعَ ملءَ مضمونِ هذا الرأي الفلسفيِّ الذي له نصيبُه من الصحة، ولأتمكنَ من تعزيزِه على أرضِ الواقع؛ فقد أَولَيتُ الأهميةَ الأولى لتقويةِ المرأةِ التي بين صفوفِنا وتعبئتِها من جهاتٍ عدة (أيديولوجياً، سياسياً، أخلاقياً، جمالياً، جسدياً، بل وحتى عسكرياً "لأجلِ الدفاعِ عن الذات"، واقتصادياً، ورياضياً، وهلمَّ جرة). لذا، كنتُ أهتمُّ بالمرأةِ وأَتعاملُ معها باحترامٍ وثَبات. كنتُ أعلَمُ يقيناً أنّ الطريقَ إلى احترامِ المرأة وتقديرِها والتعاملِ معها بثبات، وأنّ السبيلَ إلى نيلِ ودِّها وحبِّها والوصولِ إلى الصائبِ والحسَنِ والجميلِ حيالَها؛ إنما تمرُّ من مساندتِها وتعزيزِ شأنِها. وتأسيساً عليه، ما كان للعشقِ أنْ يتحققَ من دونِ تقويةِ المرأة. كنتُ مقتنعاً تماماً بصحةِ هذا التعريف، وواثقاً كلَّ الثقةِ أنه موضوعٌ لا يَحتَمِلُ أيَّ تَراخٍ أو تنازُل. ومع اكتسابِ هذه المهارةِ والقوةِ تدريجياً، كانت نشاطاتُ المرأةِ تغدو قَيِّمةً وثمينة. فكانت الفتياتُ يُحَدِّقن إليَّ ويَحضُنّني وكأنهن استيقظنَ للتوِّ من سُباتٍ بل من كابوسٍ مزعجٍ دامَ لآلافِ السنين. ورغمَ الحيطةِ الفائقةِ التي أتحلى بها أثناء تناولي لهذه المواضيع، فحتى أنا لَم أترددْ في احتضانهنّ بودٍّ وشوق، وفي جعلِهنّ تاجَ رأسي.

وقد فرضَ مفهومان خاطئان نفسَيهما دوماً في هذا المضمار: حيث أَنهَكَنا أولئك الذين سلكوا مواقفاً منحطةً كلما سنحَت لهم الفرصة، بهدفِ استملاكِ بعضِهم بعضاً بشكلٍ تقليديٍّ وبإشارةٍ من العينِ والحاجب انطلاقاً من جنسويةٍ فظةٍ تفتقرُ إلى أيةِ أرضيةٍ أيديولوجيةٍ أو سياسيةٍ أو عملية. ومقابل ذلك، فسلوكُ الزهدِ الفظّ، أي محاولةُ تجاوُزِ تأثيراتِ الجنسانيةِ بالكبت، لَم يَكُنْ يَنُمُّ عن نتيجةٍ أبعدَ من تعقيدِ المشكلةِ أكثر. من هنا، باتت النشاطاتُ المُسَيَّرةُ على ضوءِ الحريةِ والمساواةِ والديمقراطية معياراً قويماً للحريةِ المجتمعية. وقد أَثبَتَت التطوراتُ الميدانيةُ مدى صحةِ وحُسنِ وجمالِ المقاربةِ المبدئيّةِ الراسخة".

ANHA