سياسة الاستثمار التركي في فوضى الداخل العراقي – هيفيدار خالد
تشهد الساحة العراقية السياسية تطوراتٍ ساخنةً على العديد من الصعد في الآونة الأخيرة، نتيجة الفراغ الرئاسي المتمثل بعدم اختيار رئيس جديد لمجلس النواب العراقي خلفاً لمحمد الحلبوسي، ومشكلات وقضايا أخرى تتعلق بنتائج انتخابات مجالس المحافظات التي شهدها العراق وللمرة الأولى منذ نحو عقد من الزمن في 18 كانون الأول 2023، وأخرى تعود إلى الخلافات المتفاقمة مؤخراً بين حكومتي الإقليم والمركز، ومنها أزمة رواتب موظفي جنوب كردستان، وملف تصدير نفط جنوب كردستان عبر الحكومة المركزية، يليه قرار المحكمة الاتحادية مؤخراً، الذي يقضي بإلغاء نظام الكوتا في برلمان جنوب كردستان، الذي يضمن تمثيلاً للمكونات الدينية والقومية، من بينها المسيحيون والإيزيديون والتركمان. وعلى إثرها أعلن الحزب الديمقراطي الكردستاني مقاطعته الانتخابات الأمر الذي زاد الطين بلةً، ومن المؤكد أن ذلك يؤثر سلباً على العملية السياسية في جنوب كردستان. بالإضافة إلى الخلافات العرقية والمذهبية بين المكونات الرئيسة في البلاد والتي تقف وراء تأجيجها وإثارتها أطراف إقليمية ودولية تسعى إلى خلق الفوضى وعدم الاستقرار في المنطقة وفي مقدمتها تركيا.
طبعاً إلى جانب كل هذه الأزمات العصيبة والخلاقات العميقة التي تشهدها البلاد، يبرز دور تركيا التخريبي بشكل واضح وجلّي وتدخّلها المباشر والسافر في شؤون دول الجوار، مستغلةً ملفاتٍ وأزماتٍ تشهدها هذه الدول. فمسلسل التدخل التركي في العراق حلقاته متواصلة، بدءاً من بناء القواعد العسكرية إلى خلق النعرات الطائفية بين المكونات الرئيسة، إلى استباحة أراضيه وأجوائه ضاربة بعرض الحائط القوانين والأعراف الدولية ومواثيق حقوق الإنسان كافة.
وخير مثال على ذلك أزمة منصب محافظ كركوك، التي بدأت مع فوز مرشح حزب الاتحاد الوطني الديمقراطي في انتخابات مجالس المحافظات، وتفاقمت وتعقدت أكثر مع إصرار المسؤولين الأتراك الذين زاروا مراراً وتكراراً مدينة كركوك الكردية، وكأنها ولاية تركية تابعة لهم يحق لهم التصرف بها كما يشاؤون، وحاولوا خلق فتنة كردية عربية، وألحوا في تصريحات وبيانات رسمية على أن منصب محافظ كركوك من حق المكون التركماني، وعلى الرغم من أن الكرد حصلوا على هذا المنصب بعملية ديمقراطية وعبر صناديق الاقتراع، فإن ذلك لم يرُق للنظام التركي والتركمان المقربين منه، الذين يستخدمهم دائماً للحصول على امتيازات جديدة هنا وهناك، وخلق موطئ قدم له على الأراضي العراقية وتحقيق مكاسب سياسية واقتصادية على حسابهم، بمعنى آخر وتفصيل أدق احتلال مزيد من الأراضي العراقية عبر بوابة المكون التركماني، على الرغم من أنه الأقل كتلة بين مكونات المحافظة.
لنعُد إلى أوراق الضغط التي يستخدمها النظام التركي ضد العراق من أجل تحقيق أحلامه التوسعية في المنطقة وبسط سيطرته وتوسيع دائرة نفوذه أكثر، ومنها ملف المياه الشائك الذي بات يشغل الشارع العراقي، حيث أقدمت تركيا على قطع مياه نهري دجلة والفرات من خلال بناء سدود كبيرة، وبالتالي باتت المياه الواردة إلى الأراضي العراقية شحيحة جداً، بهدف تهديد أمن واستقرار وسيادة البلاد وخلق حالة من الفوضى من خلال استفزاز العراق بهذه الورقة بين الحين والآخر، وسط موقف حكومي خجول من كل ما تقوم به تركيا من انتهاكات وممارسات محرمة دولياً. سنوات طويلة وتركيا تمارس الإرهاب في هذه البقعة الجغرافية المهمة، تقتل المدنيين وتستهدف القرى الآهلة بالسكان وتهجّرهم من قراهم وبلداتهم وتقضي على ممتلكاتهم، حتى الطبيعة لم تسلم من ممارسات سلطة أردوغان التي أحرقت الغابات وقطعت الأشجار ودمرت الأخضر واليابس، ولم تتخذ الحكومة العراقية حتى الآن قراراً صائباً ومستقلاً وسيادياً في وجه هذه التدخلات والهجمات المستفزة الهادفة إلى الاحتلال والسيطرة الواسعة.
تستهدف تركيا منذ سنوات السيادة العراقية وتنتهك القوانين والمواثيق الدولية كافة، فقد باتت تركيا جارة مزعجة وغير مرغوب بها بالنسبة للشعب العراقي، الشارع العراقي مستاء من سياسات تركيا العدائية بحقه، بعد قطع المياه عنه وبناء أكثر من 35 قاعدة ومواقع عسكريةً على أرضه.
لم تتوقف أنقرة عند هذا الحد من الاعتداءات والخروقات للسيادة العراقية، فكثفت خلال السنوات الأخيرة من زيارات مسؤوليها ووفودها الرسمية على أعلى المستويات إلى بغداد، من أجل التفاوض مع الحكومة العراقية على ملف حزب العمال الكردستاني وضرب حركة حرية كردستان، والذين يتذرع بهم النظام التركي لاستهداف سيادة العراق واحتلال أراضيه، ودعت أنقرة بغداد للانخراط في حربها ضد حزب العمال الكردستاني، وتواصل السعي جاهدةً عبر لقاءاتها المستمرة مع المسؤولين العراقيين، لإقناعهم بتوقيع اتفاقيات أمنية تجرّ العراق لمحاربة حزب العمال الكردستاني ووضع الحزب في "قائمة الإرهاب" وقائمة الأحزاب السياسية المحظورة في العراق، وتضغط بشكل كبير عليه من أجل الرضوخ لمطالبها وجعله شريكاً في الإرهاب الذي تمارسه ضد المنطقة.
وعلى الحكومة العراقية الحالية أن تعلم أنها في حال تنازلت لتركيا في هذه المفاوضات ورضخت لابتزازها المكشوف، وسياسة المقايضة عبر ما يعرف بطريق التنمية وخطوط النقل التي تصل الخليج بالحدود التركية، وهو ما تطمح أنقرة أكثر من بغداد إلى تحوله لخط أساسي لنقل البضائع بين الشرق الأوسط وأوروبا، أنها سوف تخسر أجزاء من العراق الغني جغرافياً، وبالتالي ستحاصر تركيا البلاد سياسياً واقتصادياً، ما يعني أن مشروع التنمية هذا سينقلب إلى مخطط لتدمير العراق لصالح التمدد الذي تطمح إليه تركيا، والتي توسلت إلى الدول العربية كافةً من أجل ألا تخسر دورها الإستراتيجي في المنطقة، وتحاول الآن عبر العراق اكتساب المكانة ذاتها، لكن على حساب الشعب العراقي هذه المرة.
يجب على بغداد أن تكون على دراية كاملة بما تقوم به أنقرة في العراق، وأن تنتبه جيداً إلى ما تريده تركيا أو ما تبحث عنه وتخطط لتحقيقه من وراء ضغوطها ومطالبها الابتزازية، خاصةً أن الساحة العراقية في الوقت الحالي غير مستعدة ومؤهلة لمزيد من الأزمات والحروب والصراعات، لأنها تعاني من مئات الأزمات، ما يحتّم على المسؤولين العراقيين ألا يكونوا بيادق في يد الأتراك المحتلين الذين لهم مطامع في العراق، ويجاهرون بها في كل المناسبات، فهم لا يجدون حرجاً في الإفصاح عن اعتبارهم الموصل وكركوك ولايتين تركيتين، وقد رسموا لهما خرائط يتباهون في استعراضها أمام مؤيديهم، ويخططون من أجل السيطرة على هذه المناطق وتحقيق حلم الإمبراطورية العثمانية على دماء الشعوب. إذا لم يكن هناك موقف قوي وحازم من الحكومة العراقية فستواصل تركيا ابتزازها ولن تتوقف عن ذلك. فيجب على العراق دعم مقاتلي حزب العمال سياسياً وعسكرياً ودبلوماسياً بدلاً من محاربتهم، لأن انخراط بغداد بهذا المخطط سيكون جزءاً من كارثة حقيقية ستشهدها المنطقة نتيجة هذه الحرب التي لن تكون لصالح العراق أبداً، وعليه ألا يساوم في هذا الموضوع مقابل أي ثمن ولقاء أي مغريات، وألا يخضع لأي ابتزاز.
إن مقاتلي حزب العمال الكردستاني اليوم، هم السد المنيع والسور الذي يحمي سيادة العراق من المطامع والمخططات التركية، فلولا المقاومة التي يبديها مقاتلو الحزب لاحتلت تركيا جميع القرى والمناطق في جنوب كردستان، ولولا تضحيات هؤلاء المقاتلين لتمدد تنظيم داعش الإرهابي إلى مناطق واسعة انسحب منها الجيش العراقي والقوات الأخرى التي كان يفترض أن تحمي السكان المدنيين من خطر الإرهاب وخاصةً في جنوب كردستان، بينما جميعنا يعلم الدعم الذي يقدمه الحزب الديمقراطي الكردستاني للدولة التركية لمحاربة حزب العمال الكردستاني، وكيف يُعبّد الديمقراطي الكردستاني يومياً الطريق أمام تركيا التي تبحث عن طُرق وأساليب جديدة لمحاربة حزب العمال الكردستاني للهروب من أزماتها الداخلية وتصديرها إلى خارج حدودها، بهدف الحصول على أصوات الشوفينيين في وقت تقف على أعتاب انتخابات تلعب فيها أصوات أولئك الشوفينيين دوراً كبيراً في ترجيح كفة الفوز، وعلى الجميع أن يعلم بأن تركيا لا تحارب فقط حزب العمال الكردستاني، إنما تحارب الشعب الكردي بأكمله، لذا فإن تكاتف الجهود اليوم ضروري أكثر من أي وقت مضى، من أجل وضع حد لأطماع تركيا، وإفشال مخططاتها التوسعية.