وافق وزراء الخارجية العرب في الـ 7 من أيار الجاري، على إعادة سوريا إلى مقعدها في الجامعة العربية، لتتسارع بعدها اللقاءات الدبلوماسية بهذا الصدد، وصولاً إلى دعوة بشار الأسد لحضور اجتماع مجلس جامعة الدول العربية على مستوى القمة بدورتها الـ 32 في جدة بالمملكة العربية السعودية.
ترأّس الأسد الوفد السوري إلى المملكة بعد غياب 12 عاماً، وتوجّه مزهواً مبتهجاً إلى جدّة، وكلّه ثقة من أن الغيوم الداكنة التي لبّدت سماء العلاقات السورية العربية، قد شرعت بالتبدّد لتعود سوريا إلى سابق عهدها؛ دولة لها وزنها ومكانتها في العالم العربي.
وألقى كلمة تناولت بعناوين مختصرة جملة من الملفات.
وكان أهم ما جاء فيها إشارته إلى أن «العلل يمكن للطبيب أن يعالجها فرادى، شرط أن يعالج المرض الأساسي المسبّب لها»، وأضاف: «علينا ألا نغرق ونغرق الأجيال القادمة بمعالجة النتائج لا الأسباب».
وفي فقرة أخرى: «لا يمكننا معالجة الأمراض عبر معالجة الأعراض. فكل تلك القضايا - ويقصد بها أزمات سوريا وليبيا واليمن والسودان وغيرها – هي نتائج لعناوين أكبر لم تعالَج سابقاً».
جميل هذا الاستنتاج. ولكن كما يقال في اللهجة المصرية: «أسمع كلامك يعجبني، أشوف أفعالك أستعجب!».
إن ما ذكره في كلمته هو عين الصواب، وهو تحليل ماركسي مستند إلى مقولة (السبب والنتيجة)؛ إذ ما من ظاهرة تنشأ بدون سبب، "من تلقاء نفسها"، فهي تتولّد إما عن التطور الذي سبقها، وإما عن ظاهرات أخرى. وما من شيء ينشأ من لا شيء.
إن لكل ظاهرة مصدرها، أي الشيء الذي تولّدت عنه، وهذا الشيء يسمونه "السبب" أو "العلة"، والذي ينشأ بتأثير السبب يسمّونه النتيجة (المعلول).
إن ما جرى في سوريا هو نتيجة لسلسلة من التراكمات عبر سنوات طويلة، تجمّع خلالها حطبٌ كثير أدّى إلى هذا الاشتعال الكبير.
فعلى الصعيد السياسي: كان منسوب الحريات في حدّه الأدنى، وسياسة القمع وكمّ الأفواه والتنكيل والاعتقال والقتل من خلال ممارسات الأجهزة الأمنية هي السمة البارزة لحياة السوريين، إذ يندر أن تجد مثقفاً معارضاً لم تستضفه المعتقلات.
وعلى الصعيد الاقتصادي: تم اعتماد ما يسمى (اقتصاد السوق الاجتماعي) رسمياً، منذ المؤتمر القطري العاشر لحزب البعث عام 2005، حيث تم وأد العديد من منشآت القطاع العام دون أي مبرر، وانسحاب الدولة من دورها في الرعاية الاجتماعية، مع سياسة رفع الدعم التدريجي. وحوربت الزراعة والصناعة مقابل تنشيط دور القطاع الخاص الطفيلي غير المنتج، واعتماد سياسة الاستيراد لصالح حفنة من الحيتان المرتبطين مع مسؤولين في جهاز الدولة. كل ذلك على حساب الإنتاج الوطني.
بالإضافة إلى انتشار الفساد الكبير والتهرب الضريبي والنهب الذي استفحل ليبتلع كل خيرات البلاد، ولم يقتصر التدمير الممنهج على ما أسلفنا ذكره؛ بل طال كل المرافق الأخرى (التعليم، والثقافة، والطبابة.. وباقي الخدمات الأخرى).
كل ذلك ترافَق مع تضييق الخناق على المكونات غير العربية التي لطالما كانت أبواقُ السلطة تتبجّح في خطاباتها وأدبياتها على (النسيج الوطني والفسيفساء الاجتماعي) وما إلى ذلك، في إشارة منها إلى الكرد والسريان والشركس والأرمن وغيرها، التي لاقت جميعها من الظلم والاضطهاد والإقصاء والتهميش ما يشيب له الغلمان.
تلك الأسباب وغيرها من الموبقات هي التي أدت إلى بدء الأزمة السورية عام 2011.
وبدلاً من معالجة الأسباب (التي ذكرها الأسد في خطابه) اعتمدت حكومة دمشق على الحل الأمني والعسكري في مواجهة الشعب الذي انتفض مطالباً بحقوقه المشروعة، ولجأت إلى استخدام كل أساليب البطش، وزجّت بالجيش في أتون معركة ضارية مع المتظاهرين، واكتظت معتقلاتها وسجونها بالغاضبين من سياساتها على الصعد كافة.
واستغلت القوى الإقليمية والدولية المعادية للشعب السوري هذه الأوضاع المأساوية وساهمت بتسعير نيرانها، عبر دعم مجموعات مسلحة متطرفة من شتى بقاع العالم (داعش والنصرة ومن في حكمهما)؛ لتدمير ما تبقّى من سوريا، ما أدّى إلى نزوح وتهجير أكثر من نصف سكان البلاد في الداخل وفي دول الشتات.
وتحوّلت البلاد إلى دولة ضعيفة فاشلة أغرت "إسرائيل" بالعدوان عليها بشكل متكرر، وتركيا باحتلالها لمناطق واسعة من الأراضي السورية. وروسيا وإيران وأمريكا في وجودهم العسكري في قواعد عديدة من الجغرافيا السورية. وأصبحت البلاد مقسّمة بحكم الأمر الواقع.
إبّان الأزمة السورية، وبعد تدويلها، تقدمت العديد من الدول العربية وغيرها من دول العالم بمبادرات لحل الأزمة سياسياً، إلا أن حكومة دمشق وما تسمى "المعارضة"، المتشددة المرتبطة بأجندات خارجية، لم توافق على هذه المبادرات، والتي لو أُخِذ بإحداها، لجنّبت البلاد والعباد هذه الحرب الضروس التي ستترك آثارها الجهنمية لسنوات طويلة قادمة.
إزاء ما سبق ذكره، فإن معالجة الأسباب من خلال الاعتماد على البنية السياسية الحاكمة ذاتها التي سببت وأنتجت كل ما نعانيه من أزمات.. هو قبضٌ للريح وضربٌ من ضروب الخيال، ولم تعد تنطلي على الشعب مسرحيات التعديل الوزاري والتغيير الحكومي مع بقاء النهج ذاته، ولا مناص من الركون إلى بنية سياسية حاكمة أخرى تعالج هذه الكارثة الإنسانية الفظيعة.
أخيراً، ومن الجدير ذكره أن بشار الأسد لم يتطرّق في كلمته إلى الأزمة السورية وطريقة حلّها، ولم يبدِ أي موقف يشير إلى استعداده للانخراط في التسوية استناداً للقرار الدولي (2254).
فهل ما زالت السلطة الحاكمة في دمشق تأمل في العودة إلى ما كانت عليه البلاد قبل عام 2011، دون أي تغيير جدّي على الصعد التي تم ذكرها آنفاً؟
أم أن التغيرات المتسارعة عالمياً وإقليمياً وما يرافق الأخيرة من مصالحات وتفاهمات، تقتضي تقديم سلطة حكومة دمشق التنازلات المطلوبة والموافقة على المبادرة العربية بالتعاون مع دول أستانة لحل الأزمة السورية، وفي مقدمتها الحوار مع الإدارة الذاتية في شمال وشرق سوريا؟.
وكبادرة حُسن نية هل ستعلن فكّ حصارها الجائر عن حيّي الشيخ مقصود والأشرفية، وإصدار مراسيم العفو والإفراج عن المعتقلين السياسيين ومعرفة مصير المفقودين؟
هل سنعاصر ونشهد ما يصبو إليه شعب سوريا المعذّب من طموحاتٍ وآمال، ونحتفل ببداية النهاية لآلامه التي فاقت التصور والخيال؟
الأسابيع القليلة القادمة جديرة بتقديم الإجابات عن هذه التساؤلات.
عادل إبراهيم: كاتب وباحث سوري مختص بالشؤون العربية والدولية