​​​​​​​الاقتتال مستمر منذ عقود في السودان والعودة إلى الشعب هو الحل

لم يشهد السودان، هذا البلد الغني بثرواته المادية والمعنوية، أي أمان وسلام منذ استقلاله عام 1956 وإلى الآن، ولعل اشتباكات السبت بين عبد الفتاح البرهان ومحمد حمدان دقلو (حميدتي) ليست إلا نتيجة لسوء إدارة هذا البلد، ولقراءة أسباب هذه الاشتباكات علينا أن نشرح طبيعة هذا البلد وتعامل السلطات معه.

السُّودان دولة في جامعة الدول العربية وعضو في الاتحاد الأفريقي، تقع في شمال شرق أفريقيا، كما أن لها موقع استراتيجي، حيث تحدها مصر من الشمال وليبيا من الشمال الغربي وتشاد من الغرب وجمهورية أفريقيا الوسطى من الجنوب الغربي وجنوب السودان من الجنوب وأثيوبيا من الجنوب الشرقي وأريتريا من الشرق والبحر الأحمر من الشمال الشرقي.

ويبلغ عدد سكان السودان نحو 48 مليون نسمة (2022) وتبلغ مساحته 1,861,484 كيلومتر مربع، ويتألف من ثماني عشر ولاية، ما يجعله ثالث أكبر دولة من حيث المساحة في أفريقيا وفي العالم العربي. وكان الأكبر في أفريقيا والعالم العربي حسب المساحة قبل انفصال جنوب السودان عام 2011.

يقسم نهر النيل أراضي السودان إلى شطرين شرقي وغربي وتقع العاصمة الخرطوم عند ملتقى النيلين الأزرق والأبيض؛ رافدا النيل الرئيسين، ويتوسط السودان حوض وادي النيل.

يبلغ عدد القبائل في السودان نحو 570، تنقسم إلى 57 مجموعة عرقية، وتتحدث 114 لغة مكتوبة ومنطوقة، ففي شماله يوجد العديد من القبائل مثل الحلفاويين، والمحس، والدناقلة، والبديرية، والشايقية، والمناصير، والرباطاب، والحسانية، والميرفاب. بينما تقطن وسطه قبائل الجعليون، والجموعية، والعبدلاب، والمغاربة، والبطاحين، والشكرية، ورفاعة وغيرها. أما شرقه فتسكنه قبائل البشاريون، والهدندوة، والبني عامر، والبجا، والأمرأر، والعبابدة وغيرها، وفي غربه قبائل الكواهلة، والهواوير، والكبابيش، والدواليب، والحمر، والحوازمة، والمسيرية، والرزيقات، والزغاوة، والبرتي، والفور، والمساليت، وغيرها. في حين تشمل قبائل جنوب السودان الجديد القبائل نفسها التي تقطن الولايات المجاورة في جنوب كردفان، وجنوب دارفور، وجنوب النيل الأبيض والنيل الأزرق، وتشمل قبائل التعايشة، والبقارة، والهبانية، والنوبة وغيرها.

السودان بلد متعدد الإثنيات والثقافات واللغات والأديان، وتسكنه العديد من القبائل ذات الأصول العربية والأفريقية، تتوزع على امتداده الجغرافي بين مدنه وقراه المختلفة. ويشتهر بالكثير من العادات والتقاليد التي شكلت موروثه الثقافي المتنوع، وانطلاقاً من ذلك فإنه يحتاج لدستور يؤكد هذا التنوع ويضمن سلامة تنفيذه.

إلا أن الحكومات المتعاقبة، لم تراعِ هذا التنوع وحكمت البلاد وفقاً لمصالح فئوية، ابتداءً من حكم عمر حسن البشير الذي ارتكب نظامه مجازر بحق سكان دارفور وبمساعد حميدتي عام 2003، كما أن الأخير انقلب على البشير عام 2019 وحكم هو والبرهان البلاد، واللذين يتقاتلان حالياً على السلطة في هذا البلد.

عبد الفتاح البرهان

برز اسم عبد الفتاح البرهان بعد الإطاحة بالرئيس عمر البشير عام 2019، إذ تسلم رئاسة المجلس العسكري ثم مجلس السيادة السوداني.

وقبل الإطاحة بالبشير تنقل البرهان بين وحدات الجيش السوداني، كما عمل مع قوات حرس الحدود فترة طويلة، ثم ملحقاً عسكرياً في الصين، وعيّن بعد ذلك قائداً لقوات حرس الحدود، ثم تدرج ليصبح نائباً لرئيس أركان عمليات القوات البرية.

وخاض معارك عسكرية مع الجيش أيام حرب الجنوب قبيل انفصال جنوب السودان عام 2011، كما خاض عمليات كثيرة خلال عمله ضابطاً في سلاح المشاة.

رقّاه البشير من رتبة فريق ركن إلى فريق أول يوم 26 شباط/فبراير 2018، وعينه مفتشاً عاماً للجيش، وعرض عليه تولي منصب والي إحدى الولايات السودانية لكنه رفض.

وتشير التقارير إلى أن البرهان مدعوم من قبل مصر التي تلتزم الحياد، حتى بعد أسر قوات الدعم السريع لجنودها، وتشير المعطيات إلى أن الحياد المصري مرتبط بالدعم الإماراتي (الحليفة لمصر) لحميديتي.

حميدتي

هو محمد حمدان دقلو، الملقب بـ "حميدتي"، وهو شريك البرهان في الحكم ومنافسه، اشتهر في شبابه بالمتاجرة بالإبل والأغنام، وبقي يتنقل بين تشاد وليبيا ومصر. كوّن مجموعة عسكرية بدأ معها بتأمين القوافل وردع قطاع الطرق، وتطورت حتى أصبحت قوة كبيرة لفتت أنظار الحكومة السودانية التي طمعت بضمها لمساندة "الجنجويد" من أجل قمع تمرد الحركات المسلحة في إقليم دارفور غربي البلاد، وهكذا كانت "الجنجويد" بوابته نحو الدخول في معترك السياسة حتى صار نائب رئيس المجلس العسكري الانتقالي بعيد الانقلاب على البشير الذي عينه وأدخله الجيش.

ومع اندلاع صراع دارفور عام 2003، استقطبت مجموعة حميدتي العسكرية، عناصر من الجنجويد، وبدأ يلفت نظر صناع القرار في الخرطوم، وما لبث أن بدأ باستقطاب أبناء القبائل المختلفة، حتى شكّلت "قوات شعبية قومية" تحت اسم "وحدات استخبارات الحدود" وعيّن حميدتي كرئيس لها.

في عام 2007 تم ضم قوات حميدتي إلى جهاز المخابرات السوداني، ثم في عام 2013 أعاد هيكلتها الرئيس المخلوع عمر البشير وسماها "قوة الدعم السريع"، وجعلها كياناً رسمياً شبه عسكري بقيادة حميدتي الذي منحه البشير صلاحيات وامتيازات كبيرة، وجعل البشير القوة تقاتل نيابة عن الحكومة السودانية في عهده خلال الحرب في دارفور.

وزادت ثروة حميدتي في تلك الفترة، ورافقتها زيادة نفوذه وقواته، حتى استولى على مواقع تعدين الذهب الرئيسة في منطقة دارفور، وبحلول عام 2017 شكّلت مبيعات الذهب في البلاد 40% من الصادرات.

وفي عام 2015 استطاع حميدتي تطوير علاقاته الخارجية، إذ أرسل وحدات الدعم السريع إلى اليمن بعد انضمام السودان إلى تحالف مع السعودية لمحاربة الحوثيين.

يتلقى حميدتي الدعم، بحسب تقارير، من الإمارات العربية المتحدة وله علاقات مع مجموعة فاغنر الروسية. كما أبدت المملكة العربية السعودية اهتماماً وثيقاً به، وخاصة أن جزءاً كبيراً من قوات الدعم السريع شاركت في القتال ضد الحوثيين في اليمن.

مجلس السيادة

وبعد الانقلاب الذي أطاح بالبشير، تشكل مجلس السيادة السوداني، وهو الجهة المنوط بها الإشراف على المرحلة الانتقالية في السودان. والمجلس جاء عقب اتفاق بين المجلس العسكري الانتقالي (الذي يضم البرهان وحميدتي) وتحالف قوى إعلان الحرية والتغيير السوداني، واتفق الجانبان على أن يتكون المجلس من 11 شخصاً، خمسة عسكريين يختارهم المجلس الانتقالي وخمسة مدنيين يختارهم تحالف قوى التغيير، بالإضافة إلى مدني يتفق الجانبان على اختياره. والمجلس هو برئاسة عبد الفتاح البرهان الذي أدّى القسم الدستوري أمام مجلس القضاء السوداني يوم الأربعاء 21 آب 2019 والذي عيّن عبد الله حمدوك رئيساً للوزراء.

انقلاب على انقلاب

فترة الحكم "المدني" التي تولاها حمدوك دامت قرابة عامين، حيث قام البرهان وبمساعدة حميدتي بانقلاب في 25 تشرين الأول 2021 في السودان، إذ قام الجيش السوداني بانقلاب ضد الحكومة المدنية، واعتُقل ما لا يقل عن خمسة من كبار الشخصيات في الحكومة السودانية، بمن فيهم رئيس الوزراء عبد الله حمدوك، وعلى إثر ذلك أعلن عبد الفتاح البرهان حل مجلس السيادة، وفرض حالة الطوارئ، وإعفاء معظم وزراء حكومة حمدوك وكذلك إعفاء حكام الولايات، وجرى اعتقال عدد كبير من المؤيدين للحكومة، في مسعى رآه الكثيرون أنه تراجع من قبل البرهان عن وعده بإبعاد المؤسسة العسكرية عن الحكم المدني.

وبعد الانقلاب، شهد الشارع السوداني تظاهرات أسبوعية ترفض الانقلاب وتطالب بخروج العسكر من المشهد السياسي نهائياً، حيث قتل خلالها 118 متظاهراً.

شهد السودان، أحد أكبر الدول العربية من حيث المساحة والتعداد السكاني، وأحد أكثر بلدان العالم فقراً، هذه الفترة تراجعاً اقتصادياً حاداً، حيث يعاني اقتصاده، من تبعات عقود من العقوبات الأميركية في عهد الرئيس السابق عمر البشير.

وزاد من سوء الوضع الاقتصادي انفصال الجنوب عام 2011، حيث كل حقول النفط، كما أدى الفساد دوراً كبيراً في التدهور الاقتصادي للبلاد.

الحكم المدني مرة أخرى

وبعد مرور عام على انقلاب 2021، تداولت الكثير من الأوساط السياسية عن قرب التوصل إلى تسوية سياسية تضمن ابتعاد العسكر عن السلطة وتسليمها بالكامل للمدنيين.

واستندت التسوية حينها، بين المكون العسكري وقوى الحرية والتغيير - مجموعة المجلس المركزي، على مشروع الدستور الانتقالي المقترح من قبل نقابة المحامين السودانيين.

وألقى مشروع الدستور الانتقالي ترحيباً دولياً ومحلياً شمل القوى العسكرية التي أبدت تحفظات على عدد من بنوده.

ولكن أبرز المشاكل التي حالت دون إتمام التسوية هي قضية العدالة الانتقالية، إذ يطالب المكون العسكري بحصانة تضمن عدم محاكمته حتى نهاية الفترة الانتقالية.

الجيش إلى الثكنات

ونتيجة الضغط الشعبي وتدهور الوضع الاقتصادي، أعلن رئيس مجلس السيادة الانتقالي في السودان، الفريق عبد الفتاح البرهان، خروج المؤسسة العسكرية من العملية السياسية نهائياً، مشدداً على أن هذا الأمر يقابله عدم مشاركة الأحزاب السياسية في الفترة الانتقالية، استجابة للمطالب التي يرددها الثوار: "العسكر للثكنات والأحزاب للانتخابات".

الاتفاق الإطاري

وقّع المكون العسكري (البرهان وحميدتي) في السودان في الخامس من كانون الأول 2022، مع قوى مدنية بارزة في مقدمتها إعلان الحرية والتغيير، ونحو أربعين حزباً ونقابات مهنية، اتفاقاً إطارياً لحل الأزمة السياسية في البلاد.

كان يتوقع الكثيرون أن يشهد السودان فصلاً جديداً من فصول الانتقال السياسي في البلاد، بعد التوقيع على الاتفاق الإطاري وذلك لبدء مرحلة يقودها مدنيون تنتهي بإجراء انتخابات.

ويأتي الاتفاق بعد بضعة أشهر من إعلان البرهان أن الجيش سوف يبتعد عن السياسة ويترك المجال للاتفاق على حكومة مدنية.

كما أن الشق الأول من عملية سياسية على مرحلتين ترتكز على مسوّدة الدستور التي أعدتها نقابة المحامين السودانيين أخيراً، بحسب بيان قوى الحرية والتغيير، وهو الأمر الذي لاقى ترحيباً من الأمم المتحدة.

أهم بنود الاتفاق

ومن أهم بنود الاتفاق هو تشكيل حكومة مدنية يرأسها رئيس وزراء بصلاحيات واسعة، بالإضافة إلى مجلس للسيادة برئاسة مدنية، كما يتولى الفريق عبد الفتاح البرهان منصب قائد الجيش بينما يتولى الفريق محمد حمدان دقلو منصب قائد قوات الدعم السريع، بالإضافة إلى تشكيل مجلس تشريعي يكون فيه ممثلون عن الأحزاب ولجان المقاومة، مع منح المرأة 40% من نسبة المقاعد، وضرورة محاكمة المتورطين في مقتل المتظاهرين وغيرها من الانتهاكات وعدم الإفلات من العقاب، تكون مدة الفترة الانتقالية سنتين تبدأ من تاريخ تعيين رئيس الوزراء.

قضايا مؤجلة

أما الشق الثاني من الاتفاق، ويشمل قضايا عدة من بينها العدالة الانتقالية وإصلاح الجيش، فينتظر أن يتم الانتهاء منه "في غضون أسابيع"، وفق البيان.

وتشير المعطيات إلى أن السبب الرئيس في الاشتباكات الحالية، هو القضايا المؤجلة الذي كان من المفترض الاتفاق عليها في بداية نيسان.

كان من المزمع أن يمهد الاتفاق الإطاري أو المسوّدة الأولية للاتفاق السياسي النهائي بين العسكر والقوى المدنية في السودان والذي كان من المنتظر توقيعه مطلع الشهر الحالي، لتشكيل حكومة مدنية في الحادي عشر من الشهر ذاته ويسبق ذلك التوقيع على الدستور الانتقالي يوم السادس منه.

قبل انطلاق الاشتباكات

بدأت نيسان في الخرطوم، اجتماعات لجنة صياغة الدستور الانتقالي بمشاركة القوى المدنية والعسكرية الموقّعة على الاتفاق الإطاري، وذلك بعد أن تعذر التوقيع على الاتفاق النهائي في الأول من نيسان الجاري والسادس منه، بسبب خلافات المؤسسة العسكرية حول القيادة والسيطرة وسنوات الدمج، حيث تنخرط لجان فنية وعسكرية في اجتماعات متواصلة للتوصل لاتفاق، كما كان من المفترض أن يكون 11 نيسان موعداً لإعلان هياكل السلطة بعد توقيع مسوّدة الدستور في 6 نيسان وهو ما تعذر الايفاء به.

وشهدت المدن السودانية 13 نيسان، معارك طاحنة وكرّ وفرّ بالأسلحة الثقيلة، والدبابات، والطيران الحربي بين الجيش وقوات الدعم السريع في غالبية المدن السودانية، والتي أسفرت حتى لحظة إعداد هذا الملف عن مقتل 185 مواطناً و1800 إصابة شخصاً وفق المفوض الأممي لحقوق الإنسان.

الحل الحقيقي في السودان

واليوم بعد عقود من الأزمات المتواصلة، ما زال يتوالى على هذا البلد حكومات عسكرية ومدنية بطابع عسكري تخدم الطبقة الحاكمة، كما أن جميع الحلول القديمة والجديدة تدور في فلك إعادة تدوير السلطة الحاكمة، متجاهلين شعوب السودان الغائرة في التاريخ ذات التنوع الإثني والقبلي والثقافي واللغوي والديني، وانطلاقاً من ذلك هي تحتاج لدستور تصيغه شعوب السودان، والتي يجب أن تؤكد على التنوع الموجود فيه ويضمن سلامة تنفيذه.

 (ي ح)

ANHA


إقرأ أيضاً