132 حالة خلال نصف عام.. الانتحار يتفشى في مناطق حكومة دمشق والاحتلال التركي

وسط السياسات والانتهاكات الممنهجة التي تمارس على المواطنين، ارتفعت في السنوات الأخيرة حالات الانتحار بشكل مخيف في المناطق السورية الخاضعة لسيطرة حكومة دمشق والاحتلال التركي، إذ أشارت آخر إحصائية أخذت من المنطقتين إلى وقوع 132 حالة انتحار خلال نصف عام فقط، فما هي المعاناة التي يعيشها المواطنون في تلك المناطق؟ وما هي الأسباب التي تدفعهم للانتحار؟

ازدادت في السنوات الأخيرة، حالات الانتحار على نحو لافت في المناطق الخاضعة لسيطرة حكومة دمشق والاحتلال التركي، حيث بلغت عدد حالات الانتحار المسجلة وفق آخر الإحصائيات 132 حالة؛ في مؤشر خطير على تدهور الصحة النفسية للمواطنين نتيجة تردي الأوضاع المعيشية والأمنية السائدة هناك.

وأفادت تقارير إعلامية نقلاً عن مدير عام "الهيئة العامة للطب الشرعي" في حكومة دمشق، الدكتور زاهر حجو، بأنه "تم توثيق 101 حالة؛ منهم 77 من الذكور و24 من الإناث، أكثرها وقعت في حلب بـ 28 حالة".

وفي المناطق الخاضعة لسيطرة الاحتلال التركي، حيث الفوضى والفلتان الأمني وتفشي الفقر، فقد سجلت 31 حالة انتحار منذ مطلع العام الحالي؛ منها 11 طفلاً، و11 من الإناث، و9 من الذكور ومعظم الحالات من اليافعين والنساء.

ووصف محللون نفسيون هذه الأرقام بـ "الخطيرة"، لاسيما وأنها تمثل فقط حصيلة نصف عام؛ في حين أن حصيلة العام الفائت إجمالاً قد بلغت بحسب حجو 166 حالة انتحار، عِلماً أن الأعداد غير المعلنة أكثر بكثير من المعلنة.

ماهي أسباب الانتحار؟

مع استمرار الأزمة السورية، انتشرت العديد من الأمراض النفسية بين السوريين كاضطرابات المزاج والاكتئاب والاضطراب ثنائي القطب والهوس، وكذلك حالات الإدمان على المهلوسات والمخدرات، التي تعد من أبرز دوافع الانتحار، ويأتي ذلك بسبب الرعب الشديد والحزن وافتقاد الشعور بالأمان إلى جانب التفكك الأسري بسبب غياب الدعم الاجتماعي، بالإضافة إلى صعوبات العيش وتأمين أبسط المستلزمات الحياتية، وفق ما يوضحه العديد من الخبراء النفسيين.

خلال حديث لوكالتنا، يرى الناشط السياسي السوري ضياء إسكندر، أن الأسباب التي أدت إلى تصاعد حالات الانتحار في المناطق الخاضعة لسيطرة الاحتلال التركي وحكومة دمشق عديدة من أهمها "الاكتئاب الحاد، المرور بتجربة مؤلمة، التسلط والظلم، الإدمان على الكحول أو المخدرات، العزلة الاجتماعية والوحدة، اليأس من الشفاء من مرض عضال مزمن، الخوف من وصمة عار قام بارتكابها فيقدم على الانتحار درءاً لانتشار الفضيحة".

ويضيف إسكندر: "كما أن العوامل الاقتصادية والمعيشية والعجز عن تأمين أدنى متطلبات الحياة اليومية في ظل انعدام فرص العمل، لها دور في تعزيز فكرة الانتحار، بالإضافة إلى العوامل الاجتماعية وما ينجم عنها من ضغوط وانكسارات وإحباطات على المستوى الشخصي، كالتهجير والنزوح وانعدام الاستقرار وغياب الرعاية الأسرية نتيجة التفكك الأسري والمشكلات العائلية".

70% من مبيعات الصيدليات في سوريا أدوية نفسيّة!

يلجأ أغلب السوريون إلى المهدئات للهروب من الأوضاع الاقتصادية المتردية والضغوطات الأمنية التي تفرضها قوات حكومة دمشق في مناطق سيطرتها، إذ كشف مصدر من "نقابة الصيادلة السوريين" في دمشق لموقع "المونيتور" شريطة عدم الكشف عن هويته، إن الأدوية النفسية شكلت 70٪ من مبيعات الصيدليات العام الماضي!

وبحسب صيادلة وأطباء نفسيين من مناطق سيطرة حكومة دمشق فإن "الأدوية التي تحتوي على نسب عالية من المواد المخدرة تزايد الطلب عليها في السوق السورية وأن عدد المدمنين على هذه الأدوية زاد بشكل ملحوظ في الفترة الأخيرة، كما أنها أصبحت شائعة بين طلاب الجامعات، ويتناول معظمهم حبوب "بالتان" قبل خوض الامتحان، معتقدين أن هذا من شأنه أن يمنحهم الطاقة".

واعترفت وفاء كيشي، "نقيبة الصيادلة السوريين" التابعة لحكومة دمشق، بزيادة الطلب على المهدئات بين السوريين.

وفي بيان صحفي وزع على وسائل الإعلام المقربة من حكومة دمشق في 23 آب الماضي، قالت وفاء كيشي إن "السوريين يتجهون بشكل متزايد إلى المهدئات بشكل أساسي بسبب الأزمات والحروب الحادة التي تعصف بسوريا وتسبب الأمراض العقلية".

ويأتي ذلك في وقت تراجع فيه العلاج النفسي نتيجة هجرة الأطباء والمعالجين وندرة الأدوية الفعّالة وغلائها الفاحش، ما يجعل المريض النفسي يعاني أشدّ حالات الألم دون أي مساعدة أو علاج، بحسب إسكندر.

ومع استمرار الأزمة الاقتصادية وانهيار الليرة السورية مقابل الدولار، بات تلقي العلاج النفسي في العيادات باهظ التكاليف؛ إذ تكلف الزيارة الواحدة إلى العيادة نحو 50 ألف ليرة، أي نصف الأجر الشهري للموظف، وخلافاً لذلك وبحسب إسكندر "فأنه يوجد في سوريا 70 طبيب اختصاص أمراض نفسية فقط، يعملون ضمن العيادات والمشافي بشكلٍ فعلي".

ويضيف إسكندر: "على الرغم من ثبوت الصلة بين الانتحار والاضطرابات النفسية (خاصة الاكتئاب والاضطرابات الناجمة عن تعاطي الكحول والمخدرات) فإن كثيراً من المصابين بهذه الأمراض يرفضون زيارة أطباء النفس، لأن المجتمع يعتبر المريض النفسي (مجنوناً) أو (مختلّاً عقلياً) وغيرها من الأوصاف التي تجعلهم يتردّدون في الحصول على استشارة نفسية".

ونوه إسكندر إلى أنه "من أحد الخطوات الضرورية للحدّ من ظاهرة الانتحار هو نشر ثقافة الطب النفسي وجعلها أسلوب حياة، حالها حال الذهاب للطبيب العادي، وإنهاء مسألة وصمة العار التي تسود المجتمع عند الحديث عن الحاجة للحصول على استشارة نفسية".

انتهاكات المرتزقة بحق المواطنين

وتشهد المناطق الخاضعة لسيطرة الاحتلال التركي أوضاعاً أمنية ومعيشية متدهورة، مع استمرار الانتهاكات التي ترتكبها مرتزقة الاحتلال التركي بحق المواطنين من تعدٍ على حقوقهم والتصرف بممتلكاتهم والتهجير القسري كلها من الممكن أن تؤثر بشكل كبير على الصحة النفسية للمواطن وتدفعه إلى الانتحار.

كما سجلت أغلب حالات الانتحار التي وقعت في مناطق إدلب وريف حلب الشمالي الخاضعة لسيطرة الاحتلال التركي للنساء واليافعين، ما يثبت مدى القيود والمشاكل الاجتماعية التي تعاني منها هاتين الفئتين من قبل مرتزقة تركيا.

ويشرح إسكندر، الوضع في تلك المناطق بالقول: "ساهم الوضع المعيشي الصعب النزوح والتهجير والتفكك الأسري والضغوط الكبيرة التي يتعرض لها المدنيون، وخاصةً النساء والأطفال، واستمرار الضائقة المادية وحالة القلق الدائم المتواصلة من انقطاع مصادر الدخل في رفع معدّلات حوادث الانتحار في تلك المناطق التي تكتظّ بالنازحين الذين يعانون من أزمة دخل، مع تراجع المساعدات الإنسانية".

ولفت إسكندر إلى "المضايقات والانتهاكات الجسيمة التي تمارسها التنظيمات الإرهابية ومرتزقة جيش الاحتلال التركي وما تسجّله يومياً من خطف واحتجاز تعسّفي لمواطنين يعيشون في كنفها، سواء للحصول على فدية مالية من ذوي المخطوفين، أو بغية إخضاعهم لقناعاتهم الأيديولوجية المتطرفة البعيدة عن مقتضيات العصر، وإكراههم على اتباع سلوكيات لا تمتُّ بصلة للحضارة الإنسانية، بالإضافة إلى حالة الفوضى وعدم الاستقرار والأمان، والأزمات الاقتصادية والمعيشية وانتشار المخدرات.. كلها تتسبّب برفع معدل الانتحار في تلك المناطق".

مناطق حكومة دمشق والانتحار.. "فوق الموتة عصّة قبر"

حتى نهاية 2010، كانت سوريا تصنّف، وفق منظمة الصحة العالمية، من الدول التي تشهد أقلّ معدّلات الانتحار، مقارنةً بغيرها من الدول؛ حيث كانت في المرتبة 172 من أصل 176 دولة على مؤشر الانتحار، وفق موقع world population review المتخصص بإحصاء البيانات الديموغرافية، إذ كانت ظاهرة الانتحار غريبة عن السوريين عموماً إلا فيما ندر.

ويوضح إسكندر تفاقم ظاهرة الانتحار في السنوات الأخيرة بالقول: "استمرار الأزمة السياسية دون حلّ، اعتماد السلطة في نهجها الاقتصادي على السياسات الليبرالية المتوحشة في إدارة شؤون البلاد، أدّى إلى إفقار البلاد والعباد والذي جاء بالتزامن مع صدور جملة من القرارات الاقتصادية من رفع الدعم عن الكثير من المواد الأساسية كالمحروقات والأسمدة الزراعية وغيرها، ما تسبّب بموجة غلاء فاحشة شملت كافة ميادين الحياة، وبات الحصول على وجبة الطعام الشغل الشاغل لأرباب الأسر، ليس هذا فحسب، بل رافقها صدور قوانين تمنع المواطن حتى من التعبير عن وجعه، فيما سُمّي بـ (قانون جرائم المعلوماتية). أي كما يُقال (فوق الموتة عصّة قبر).

كيف يمكن معالجة تفشّي ظاهرة الانتحار؟

مما لا ريب فيه أن معالجة أي ظاهرة مرضية تكمن في تشخيص أسبابها، وتحديد طرق علاجها، ومن ثم السعي للقضاء عليها، وعن ذلك قال إسكندر: "أولى خطوات المعالجة التي يمكن أن تسهم في الحدّ من تفشّي ظاهرة الانتحار، هو حلّ الأزمة الفظيعة التي مضى على اندلاعها أكثر من عقد، بتقديري إن جميع الأزمات وبمختلف مسمّياتها التي تتخبّط فيها سوريا وعلى الصعد كافة، تعود إلى التأخر في الحل السياسي للكارثة الإنسانية الرهيبة التي تعصف بالبلاد".

ولفت إسكندر إلى ضرورة معالجة أسباب ظاهرة الانتحار؛ من توفير فرص عمل، وإنشاء مراكز للتأهيل النفسي، وإطلاق حملات إعلامية لتسليط الضوء على مخاطر الانتحار وكيفية الحدّ منه، وإنشاء مراكز خاصة لعلاج الإدمان على المخدرات، وزيادة الجرعات التوعوية اللازمة لأفراد وفئات المجتمع عن طريق مختلف الوسائل الإعلامية والتعليمية؛ لبيان خطر جريمة الانتحار وبشاعتها وما يترتب عليها من نتائج مؤسفة وعواقب وخيمة سواءً على الفرد أو المجتمع. وكذلك علاج الاكتئاب، وتأمين الحياة الكريمة للنّاس، وغيرها من الإجراءات التي من شأنها الحدّ من ظاهرة الانتحار".

وختم الناشط السياسي السوري، ضياء إسكندر حديثه مستدركاً: "للأسف كلها غير متوفرة حالياً، ولن تتوفر في ظل البنية السياسية الاقتصادية الحاكمة، ولا مناص من التغيير الجذري الشامل والعميق لكافة بُنى وهيكلية الدولة للوصول إلى سورية ديمقراطية عادلة قوية ومزدهرة وقادرة على معالجة كافة الظواهر المرضية الشنيعة، ومن بينها ظاهرة الانتحار".

(ي ح)

ANHA


إقرأ أيضاً