بروفيسور عراقي: صعود نجم التطرف لن يوفر فرصة للسلام ويجب تعزيز النهج الديمقراطي
أكد البروفيسور والدكتور العراقي، تيسير عبد الجبار الآلوسي، أن الصراع الفلسطيني وغيره من أزمات الشرق الأوسط ناتجة عن الحلول الخاطئة التي فرضتها ظروفها التاريخية والاتفاقات بين القوى الدولية المهيمنة، وأشار إلى أن صعود نجم التطرف والتشدد الديني والقومي الذي تستفيد منه قوى الإسلام السياسي والمتطرفين من اليهود لن يوفر فرصة للحل العادل والدائم، وأن الحل يكمن بتعزيز النهج الديمقراطي الذي يكفل للجميع حقوقه.
تشير المعطيات إلى أن الحرب الدائرة بين إسرائيل وحماس ستطول، وستكون لها تأثيرات كارثية على الشعبين الفلسطيني والإسرائيلي، كما تسعى الدول المهيمنة لاستثمارها وتحقيق المصالح من ورائها بالإضافة إلى الحلول المثلى بشأن الصراع.
وفي هذا الصدد، أجرت وكالتنا حواراً مع البروفيسور والدكتور العراقي، تيسير عبد الجبار الآلوسي، وجاء نص الحوار كالتالي:
*ما مدى معاناة الشعب الفلسطيني والإسرائيلي من هذه الحرب؟ وما القوى المهيمنة التي تسعى للاستفادة من ذلك؟
لم تبدأ قضية الصراع بين طرفيه بالأمس القريب، ولكنها وُلِدت من رحم الحلول التي فرضتها ظروفها التاريخية المتسمة بالقسوة والعنف كحال كل ما ينجم عن الحروب وأشكال العنف من أوضاع غير مستقرة بانتظار حلقة عنف أخرى، ومن هنا فإن شعوب منطقة الشرق الأوسط ظلت بمعاناة فعلية ناجمة عن تلك الحلقات المتسلسلة من التفجرات بوصفها ردود فعل انعكاسية لا تنضبط بمنطق حكمة أو موضوعية استجابة لمطالب الشعوب ووسائل تحقيقها الأنجع.
والدليل الفاضح هو الحلقة الجديدة من الحرب التي تدور اليوم، فعلى الرغم من أن الشعب الفلسطيني هو الخاسر على مدى عقود بعيدة في التاريخ الحديث لحركة التحرر والانعتاق فإنه ما زال يرزح تحت الاحتلال من جهة ويحيا عذابات اللا حرب واللا سلم بين انفجار الأوضاع كل مدة تحتقن فيها الأمور وتبرز حال خضوعها لإرادة قوى العنف بل الإرهاب المتستر بالدفاع عن القضية فيما هو المستغل لها لمصالح خاصة به وحصراً بالإسلام السياسي الذي وجد بظاهرة دعمه إقليمياً مكانة عالية رافقته باستمرار حالات صمت وسلبية تجاه صعود نجمه أو حتى دعم وتعاون غير مبرر سوى بتمرير مصالح الداعمين وتمثيلها أو الخضوع لتوجهاتها.
اليوم، نشاهد نموذجاً فجّاً خطيراً لتلك المعاناة عبر وقوع أكبر ظاهرة نزوح منذ منتصف القرن الماضي يُراد تحويلها إلى التهجير القسري نتيجة هول التخريب والتدمير للآلة الحربية الإسرائيلية وهي من الجرائم الكبرى التي تحاول التستر بمبررات اقتلاع حماس ما لا يمكن أن يتفق وإياه منطق؛ لأنه [أي التهجير القسري] جريمة بكل توصيفاته في ضوء القانون الدولي والقانون الإنساني الدولي، حيث يتم هنا ارتكاب (جريمة عدوان، وجرائم حرب، وجرائم ضد الإنسانية وحتى جرائم إبادة جماعية).
إذاً، المعاناة هنا ليست مجرد مشكلة الوصول إلى حاجات أو مطالب إنسانية بل هي قضية وجود لشعب واستحقاق تطلعه للحصول على حق الحياة والأمن والاستقرار؛ ما ينتفي ليس في 40% من قطاع غزة كما تفرضه تلك الحرب ميدانياً بل تمتد تلك الحقيقة بحجم معاناتها الكارثية وفظاعاتها لتشمل كل شبر من الأرض الفلسطينية سواء في غزة أو في الضفة الغربية.
إنّ تشخيص أشكال المعاناة ومستوياتها للشعب الفلسطيني قد تم من الأمم المتحدة ومنظماتها الحقوقية والإنسانية بمنظور امتداد القضية الفلسطينية منذ عقود وما يعنيه عدم قيام دولة فلسطينية مستقلة حرة قابلة للحياة وغير مخترقة أم بالمستوى المنظور للقضية من انتشار القوات الإسرائيلية وممارستها إرهاب الدولة في الضفة بالتوازي مع حجم ما توقعه من كوارث بخلفية الأرض المحروقة والتدمير الشامل لغزة، ما يُتوقع أن توغل به الحكومة اليمينية الإسرائيلية أكثر بوجود ضوء أخضر من قوى دولية مهمة، سواء بدعم مباشر أو بمعاييرها المزدوجة التي تتلاعب بتمرير خطابها عند الضرورة.
إن البحث هنا يجب أن ينصبّ على الخلاص من سبب الكارثة، إذ من دون ذلك ستتواصل وتستمر الأزمة في أصلها وستهدد السلام والأمن الدوليين في المنطقة والعالم بالذات مع وجود خطوط حمراء تجاه جرائم التهجير القسري التي يتم التصريح بها علناً، أذكّر هنا بأن جرائم التغيير الديمغرافي تحت أي ذريعة هي جرائم كبرى محظورة ولها وسائل عقاب في القوانين الدولية المعتمدة، وعليه سيكون الحديث عن المستفيد من الحرب، سواء محلياً أو إقليمياً ودولياً واقعاً بهذا السياق وليس بسياقات حساب الربح والخسارة ومخرجات الصراع التي يراد لها أن تبقى بخدمة قوى مستفيدة هي قوى التشدد والتطرف والإرهاب وسط جميع الأطراف.
إن المعاناة إذا لم يجر إنهاؤها فستكون بوابة الجحيم للعالم، لخطورة المنطقة وتشابك أوضاعها وأذكر هنا على سبيل المثال لا الحصر مصالح إيران وتركيا وجرائم التغيير الديمغرافي المرتكبة بمناطق الاحتلال لصالح ما تسعى لفرضه تلكما القوتين الإقليميتين وهنا ستكون تداعيات معقدة أخرى على أكتاف تلك المعاناة.
ما الحل الأمثل لهذا الصراع؟
لقد تكررت كثيراً حالات انفلات الأوضاع وتفاقمها لتقع حروب أو معارك وهجمات، حسب حجمها وطابعها في كل مرة، كما أن أوضاع الشعب الفلسطيني ممزقة بخلفيات وأسباب عديدة بعضها متناقض؛ ومثل ذلك سمح باستمرار لإسرائيل بالهروب إلى الأمام بلا عقاب أو حساب وبلا... ما يلزمها بتنفيذ القرارات الأممية العديدة التي تُلزمها بإنهاء احتلالها وتلبية قيام دولة فلسطينية حرة مستقلة قابلة للحياة وعاصمتها القدس على وفق قرارات الأمم المتحدة ومجلس الأمن ومجمل المنظمات والمؤتمرات الدولية والاتفاقات التي جرت في العقود الأخيرة بدءاً بقرار 242 و338 وليس انتهاء بإقرار الجمعية العامة للأمم المتحدة بإعلان دولة فلسطين في 15 تشرين الثاني 1988 بالقرار ذي الرقم 43 / 177.
بالمقابل القضية ليست قضية التزام إسرائيل بتلك القرارات في ظروف صعود اليمين القومي المتطرف ومطامحه المفضوحة، ولكنها قضية خيارات شعب فلسطين وهي خيارات تبقى محكومة مقيدة بعيداً عن حقه بدولته وبتقرير مصيره؛ وسر تلك التقييدات يعود إلى مستويات ثقافية وروحية يجري إشاعتها وفرضها في الأوساط العامة ما يُحدِثُ هشاشة في الموقف والإرادة تنحرف في الخيارات الأيديولوجية بخاصة بل حصراً في صعود نجم الإسلام السياسي واختيار قواه المتطرفة دينياً وطابعها الإرهابي، تلك التي تجد حاضنة ابتلت جميع الأطراف وشعوبها بمصالح تلك الفئات الضيقة، التي تتخذ خطاب التطرف الإرهابي أو العنصري القومي المتشدد باستغلالها الدين السياسي على طرفي الصراع. وتجدر الإشارة إلى أن تلك القوى باتت تتنامى حجماً بخلفية الهشاشة الفكرية ومستويات إدراك ما يتسبب بالأزمة ويوجه عناصرها.
وبجميع الأحوال ينبغي التأكيد على أن صعود نجم التطرف والتشدد الدينيين عند المسلمين وقيادات إخوانية أم لدى اليهود وقيادات صهيونية عنصرية لن يوفر فرصة للحل العادل والدائم بل يؤكد خيار العنف وتكرار الحروب ومواصلتها على حساب الشعوب ومطالبها في السلام. بينما ينبغي فوراً وعاجلاً اتخاذ قرار أممي ملزم لتحقيق الحل السلمي العادل والشامل في الشرق الأوسط يستند إلى ما سيتوصل إليه مؤتمر دولي يتبنى:
- إقرار دولة فلسطين الحرة المستقلة.
-إخلاء المنطقة من أسلحة الدمار الشامل بدءاً بالنووي.
- تأكيد حظر أي سلوك يتعارض والنهج الديموقراطي الضامن للحقوق والحريات كافة، ولمبدأ التعايش السلمي بما لا يحرم طرفاً من حقوقه لأي ادعاءات مرضية خاطئة.
- حل موضوع اللاجئين منذ 1947 بصورة كلية شاملة بالاستناد إلى القراءات الموضوعية المعروفة.
- مشروع إعادة بناء دول المنطقة بدءاً بفلسطين بآلية دولية تساهم بها الدول الكبرى والاتحاد الأوروبي.
- حظر أسلحة الحرب الهجومية والعمل على صياغة اتفاقات نزع السلاح المتبادل.
- وضع حلول مناسبة لمشكلة الموارد والسيادة عليها بما يتفق والقوانين المعمول بها ويخدم مصالح شعوب المنطقة على أساس عادل.
ولا بد لي أن أؤكد أن وجود مؤتمر دولي يبحث في الحل العادل والشامل، سيعني ضمناً وضع النموذج الأمثل لحل القضايا المعقدة بالمنطقة وتوفير أرضية لتلبية حق تقرير المصير لجميع الشعوب التي اُبتليت باستلابها هذا الحق وجرى تمزيقها بين دول اتفاقية سايكس بيكو مثلاً أو غيرها مما فرضته الدول المنتصرة بالحربين الكونيتين الأولى والثانية ما بقي حتى يومنا يئن من فروض قسرية على حساب تلك الشعوب وعفي مقدمتها شعب كوردستان بأجزائها الأربعة.
من هنا، فالبحث في حل عادل لقضية ملتهبة في هذه اللحظة التاريخية الفارقة لا يعني مرورنا بلا وقفة تجاه القضايا الأخرى؛ لأن النار تحت الرماد ووجود أي قضية كبرى بلا حل مدعاة لمزيد من المعاناة ومزيد من الفظاعات كما يحدث تجاه شعب كوردستان الشرقية أو الشمالية أو الغربية وحتى بكوردستان الجنوبية.
* إلى أين سيتجه الوضع بعد انتهاء وقف إطلاق النار بين إسرائيل وحماس؟
الحرب التي أشعلها التلكؤ بتلبية إرادة الشعوب والمماطلة بتنفيذ القرارات الأممية بشأن حل الدولتين وقيام دولة فلسطين الحرة المستقلة الموحدة والقابلة للحياة؛ تلك الأوضاع التي استغلتها قوى التطرف والعنصرية والإرهاب فأشعلتها على حساب حق الحياة الحرة الكريمة وعلى حساب الأمن والاستقرار لها المستفيد منها كما أشرنا بوضوح، ومن ثمّ فإنّ الأوضاع بعد إنهاء وقائع الحرب ووقف إطلاق النار ستتجه إلى احتمالات متعددة بينها وبشكل جد ضعيف وقفها بلا تغيير جدي يُذكر لتفرز بين مخرجاتها تسويقاً لقوى الإسلام السياسي في جبهة وقوى التطرف القومي العنصري في جبهة مقابلة بانتظار سانحة جديدة للاشتعال! وهذا الاحتمال الضعيف الذي أضعه آخر الاحتمالات سيكون ناجماً عن سعي الأطراف التي تمتلك بعض خيوط اللعبة للتراجع عن حجم الخراب والاشتعال الذي لم يعد محتملاً من أي طرف من أطراف الحرية والسلام وقوى الشعوب الحية وحركة تضامنها المطالبة بوقف فوري للحرب.
لكن الاحتمال الأبرز والأهم قد يكون بالدفع إلى مؤتمر دولي للسلام بينها أطراف المبادرة العربية والدول دائمة العضوية في مجلس الأمن والأطراف المعنية بالمؤتمرات السابقة بشأن قضية الشرق الأوسط مثل إسبانيا والنرويج وغيرهما مع أدوار قوى إقليمية مهمة لتخرج بنتائج مستجيبة للشرعة الدولية وقراراتها ولما يخدم شعب المنطقة؛ لكن يجدر التذكير بأن هذا التوجه سيبقى محفوفا بالتضاغطات الخاضعة لاختلال التوازن الدولي إلا بحال دخول متغيرات لصالح التعددية القطبية ومبادرات شاملة تجمع بين مطالب متغيرات جوهرية في دول المنطقة من جهة واستراتيجياتها وانسجام ذلك مع توجهات استراتيجيات الدول الكبرى ومشروعات الربط بين المناطق الاقتصادية الأساس في وجود كتل الدولار واليورو واليوان وغيرها.
أما احتمالات تسيير الأمور بصيغ مرحلية فقد تشمل تصفية القوة العنفية لبعض الفصائل بمجمل المنطقة وكسب مشروعات إعادة إعمار وتشكيل مركز سلطة فلسطينية بالخصوص يمكن التعامل معه بسياقات خطاب جديد وتلبية بعض محددات دولة فلسطينية تمرر اتفاقات إقليمية كبيرة الحجم.
بجميع الأحوال لا يمكن الجزم بشكل الأحداث ما لم تتم قراءة كيف سيتم إنهاء الحرب الدائرة وما حجم المتغيرات لدى الطرفين، إذ أن التغيير في إسرائيل سيكون ربما أسهل لصالح انتهاء مرحلة نتنياهو ومجيء بديله لكنه يظل مشحوناً بمحمولات التغيير الداخلي هناك ليقيّد المتغيرات المحيطة فيما سيكون التغيير فلسطينياً مثقلاً بأوجاع الدمار والخراب وآثاره على الشعب من جهة وبتفشي خيارات أيديولوجية بينها حال الاشتباك البنيوي بين حماس التطرف وإرهابها وتمكنها من التمدد على حساب قوى فلسطينية قادرة على التعبير عن حق تقرير المصير وإقامة الدولة وهي قوى تم تهميشها وتخريب إمكاناتها بخلفية ما ارتكبته لا قوى التشدد العنصرية الإسرائيلية وحسب، بل وكل قوى التطرف ودعم خطاب الإسلام السياسي سواء تلك التي في طهران وأنقرة أو ما تفرضه القوتان من نماذج دول هشة ممزقة وقوى عنفية إرهابية...
يلزم النظر بجميع تلك المحاور كيما تُلبى إرادة شعوب المنطقة في تقرير مصيرها، سواء بدول ديموقراطية مستقلة حرة قابلة للحياة أم بكونفدراليات ديموقراطية تستجيب لتطلعات تلك الشعوب وتسمح بكامل الحقوق والحريات بلا تقييد أو عدوان أو جرائم تتستر بادعاء أو آخر.
لا بد لي من توجيه التحية إلى كل القوى الساعية لتلبية الحقوق وفي مقدمتها حق تقرير المصير وفرض إرادة السلام وتلبية شروط العيش بكرامة واستقرار وأمن وأمان لجميع شعوب المنطقة وأبنائها، وأتوجه بالتحية لكم على هذا اللقاء متمنياً لكم وجهودكم الإعلامية النجاح في تغطية الرؤى الأنجع والأكثر سلامة وموضوعية والأعمق في معالجة موضوعاتها.
(ي ح)
ANHA